فكرة مشروع متحف الحضارة المصرية

خلال زيارات الملك فاروق لأوروبا قبيل توليه العرش ، أبدى اهتماما كبيرا بزيارة المتاحف الأوربية وأثناء زيارته متحف اللوفر بباريس انبهر بطريقة عرضهم الكنوز المصرية فى الجناح المصرى بالمتحف وصرح لسكرتيره الخاص ، الدكتور حسين حسنى باشا ، بأمله أن تتمكن مصر من اقامة متحف كبير للحضارة المصرية منذ فجر التاريخ ، لما تنفرد به مصر بين بلاد العالم بما يوجد على أرضها من آثار تمثل حضارة مختلف العصور منذ عرف الانسان الحضارة الى العصر الحديث مما يزيد أبناء الجيل الحاضر من المصريين اعتزازا بوطنهم وبتاريخه العتيق وما يزيد زوار مصر من الأجانب عرفانا بمكانتها الحضارية وتقديرا لجهودها لاستعادة ماضيها المجيد ، ولما كان تنفيذ مثل هذا المشروع الجليل الشأن على الوجه الائق يقتضى دراسة عميقة طائلة من مختلف النواحى الفنية والعلمية فضلا عما يستلزمه من اعتمادات مالية ضخمة مما استدعى التريث وانتظار الفرصة الملائمة لتنفيذه ، لهذا كله وتمهيدا لتنفيذ المشروع واعداد الأذهان لادراك قيمته الكبرى ، فقد أقترح الدكتور حسنى باشا بأنه قد يكون من المفيد انشاء نموذج مصغر لمشروع المتحف الكبير للحضارة المصرية ، كمرحلة أولى ، مما لقى استحسانا من الملك وطلب منه بتذكيره بالمشروع عندما تسنح الفرصة لتنفيذه .

وحانت الفرصة المرتقبه عندما حل الموعد لاقامة الجمعية الزراعية الملكية التى كانت تتمتع بالرعاية الملكية لاقامة معرضها الزراعى الصناعى سنة 1939، والذى كان يقام كل أربعة أعوام ، وتقدم مجلس ادارة الجمعية بطلب التشرف بمقابلة الملك لاستئذانه فى اقامة المعرض والشروع فى اعداده ، حينئذ بادر الدكتور حسين حسنى باشا ، السكرتير الخاص للملك فاروق ، بتذكير الملك بالمشروع الذى كان قد أبدى اهتماما كبيرا بتنفيذه فى مصر أثناء رحلاته لاوربا .

وابتهج الملك عندما عرض هذا الموضوع عليه وطلب من سكرتيره الخاص اعداد مذكرة توضح الهدف الأساسى للمشروع الكبير لأقامة متحف الحضارة المصرية الكبير ولمشروع النموذج المصغر من هذا المتحف الذى يرجو أن توفق الجمعية فى اقامته بمعرضها القادم بمعاونة الجهات المختصة تحقيقا لبعض الفائدة المرجوه من وراء انشاء المتحف الكبير حين تتهيأ الظروف الملائمة لذلك .

وقام الدكتور حسين حسنى باشا باعداد المذكرة المطلوبة وسلمها الملك الى فؤاد باشا أباظة ( رئيس الجمعية ) ، وأوصاه بألا يدخر وسعا فى تنفيذ مشروع النموذج المطلوب على أكمل وجه مستطاع وأنه من جانبه ( أى الملك ) سيكلف سكرتيره الخاص بالتعاون فى ذلك مع الهيئة .

وعلى أثر المقابلة الملكية بادر فؤاد باشا أباظة الى الاتصال بوزير المعارف للتفاهم على خير الوسائل للشروع فى تنفيذ المشروع ، فتكونت لجنة عامة لدراسة الموضوع من مختلف نواحيه ، وكانت تضم أكبر الاخصائيين فى تاريخ مصر وآثارها منذ عصر ما قبل التاريخ الى العصر الحاضر وكذلك بعض كبار الفنانين ، وعلى أثر اجتماع اللجنة العامة شكلت لجان فرعية اختصت كل منها باستعراض تاريخ وآثار عصر معين من عصور التاريخ واقتراح الموضوعات التى ترى وجوب اشتمال المتحف عليها ، وكانت مقترحات اللجان الفرعية تعرض على اللجنة التنفيذية العامة لتقر ما تراه منها ثم تحيله الى اللجنة الفنية لابداء الرأى فى خير الوسائل للتنفيذ .

ولقد كان قيام الحرب العالمية الثانية سببا فى تأجيل اقامة المعرض ولكن ذلك لم يدع الى وقف أعمال لجان المتحف بل رؤى انتهاز تلك الفترة لزيادة الدراسة واعطاء الفرصة للفنانين للتزود بالمعلومات التى تمدهم بها اللجان التاريخية حتى يصلوا بأعمالهم الفنية الى أقصى درجات الاتقان ومطابقة التاريخ .

وكانت حركة الاعداد لانشاء هذا المتحف بمثابة انطلاقة أفادت كثيرا من أبناء الجيل الصاعد من الشبان الفنانين بتهيئة الجو أمامهم للتعمق فى دراسة تاريخ وحضارة بلادهم مما كان له كبير الأثر فى تطور الحركة الفنية الجديدة  فى مصر ، ولكن الظروف لم تسمح بافتتاح معرض الجمعية الزراعية الملكية الذى كانت تنوى اقامته فى سنة 1939 الا فى سنة 1949 وبذلك فقد امتدت فترة اعداد وانشاء المتحف الى عشرة سنوات كاملة من العمل والدراسة المتواصلة الجادة على يد أكبر من تضمهم مصر من الاخصائيين مثل : الأساتذة محمد رفعت وشفيق غربال ومحمد قاسم وابراهيم نصحى وسامى جبرة والمسيو دريتون وحسين فوزى فضلا عن مديرى المتاحف الأخرى .

وكانت الجمعية الزراعية قد خصصت لاقامة نموذج متحف الحضارة طابقا بأكمله فى السراى الكبرى لمعرضها وتبين بعدها انه لايكف للوفاء بالحاجة فألحقت به قاعتين كبيرتين فى الطابق الذى يليه خصصتا للمرحلة التاريخية التالية لعصر الحملة الفرنسية على مصر فى آخر القرن الثامن عشر تحت قيادة نابليون – أى من أول عهد محمد على باشا الى العصر الحاضر – وأما قاعات الطابق الأصلى للمتحف فقد ضاقت بما اشتملت عليه من ديورامات ولوحات ونماذج تمثل مختلف العصور .

وكانت قاعة المدخل تحتوى على تمثال لرجل الكهوف ( حين كان الانسان يعيش فيها ) طبقا لما أجمع عليه وصف علماء ذلك العصر فضلا عن مجموعة أوانى وآلات حجرية التى كشفت عنها حفائر الجامعة بجوار القاهرة ، والى جوار ذلك كان الحائط يحتوى على بعض ديورامات تمثل معيشة الانسان فى ذلك العصر ، فى حين رسمت  لوحات على طول اطار الافريز– فى أعلى الحائط بجوار السقف لتكملة المشاهد التى تبين مراحل تطور حضارة الانسان فى ذلك العصر وتنتهى تلك اللوحات بمشهد يبين اتحاد الوجهين القبلى والبحرى فى مصر وابتداء عهد الحكم الملكى الشامل لمصر كلها – المعروف بعهد الأسرات – وهو ما تتناوله معروضات القاعة التالية – القاعة الفرعونية – وكانت تحتوى على مجموعة مهمة من المعروضات ، والى جانب خريطة رسمت على الحائط لبيان الحدود التى وصلت اليها الامبراطورية المصرية فى عهد الفراعنة زين السقف بصورة للبروج السماوية منقولة نقلا دقيقا عن صورة تلك البروج كما نقشت فى سقف معبد أبيدوس ، وفى وسط القاعة وضع نموذج صغير كامل لمعبد الكرنك ، واستخدمت لوحات الافريز المجاور للسقف فى بيان عادات وطقوس قدماء المصريين فى مختلف ألوان الحياة ومعتقداتهم فى الثواب والعقاب فى الآخرة كما صفت بعض الديورامات لبيان ما وصلت اليه مصر الفرعونية من القوة والجاه ، وضمت دواليب الحائط مجموعة فريدة من نماذج الآلات والأسلحة ومتلف الحلى والأوانى والأدوات التى كان يستعملها الفراعنة .

وتلى القاعة الفرعونية قاعة خاصة بالعصر الاغريقى الرومانى فالعصر القبطى ، فالعصر الاسلامى فى مختلف مراحله الى العصر العثمانى فحملة نابليون على مصر وخصصت قاعة لبيان الروابظ التاريخية القائمة أبديا بين مصر والسودان من أقدم العصور الى العصر الحاضر والى جانبها أبدع الفنانون فى صنع خريطة مجسمة لوادى النيل طبقا للمقاييس العلمية للمرتفعات والمنخفضات والمعالم الطبيعية .

وأما القاعتان الكبيرتان للعصر الحديث، فقد عنى فى احداهما بتسجيل كيف تمت مبايعة محمد على باشا بالحكم على أيدى علماء وزعماء مصر ، والى جانب ذلك عنى المتحف ببيان النهضة العلمية والصناعية فى مصر الحديثة فضلا عن أمجاد الجيش المصرى فى ذلك العهد وفى عهد الخديو اسماعيل وقام الفنان الموهوب محمود سعيد برسم صورة بديعة للحدث العلمى التاريخى الكبير بافتتاح قناة السويس كما خصصت ديوراما لتسجيل انعقاد أول مجلس نيابى مصرى، وأما القاعة الكبرى الأخرى فقد خصصت لعهد الملك فؤاد والملك فاروق ومما حوته لوحة كبرى تصور افتتاح أول مجلس نيابى بعد اعلان استقلال مصر ولوحات وديورامات عديدة لبيان نواحى النهضة الحديثة لمصر وأهم ما مرت به من أحداث . 

وجملة القول فان المتحف حقق الى حد كبير الغرض الاساسى من اقامته وقام الملك فاروق بافتتاحه فى سنة 1949.

 

الصفحة السابقة

 

Copyright 2008 © www.faroukmisr.net