حانت ساعة رد الاعتبار .... محمد على بانى مصر الحديثة

وضعه مؤرخون بين مطرقة الظلم وسندان الإنصاف

القاهرة: حسين محمود

القائد الذى نظم الفوضى واستفاد من كتاب ميكافيللى

هناك شخصيات تمر في التاريخ من دون أن تترك أثراً، وهناك شخصيات يتوقف عندها التاريخ طويلا. من هؤلاء نابليون، الذي نذكره من دون أن نتذكر أياً من الحكام الآخرين الذين عاشوا في عصره، رغم عدم الاتفاق بين المؤرخين على هذه الشخصية، وتحليله بصوت، تتراوح بين الظلم الشديد والمبالغة في الإنصاف. من هؤلاء أيضا شخصية محمد علي مؤسس الأسرة العلوية التي حكمت مصر منذ عام 1805 عندما اعتلى محمد علي كرسي الولاية العثمانية على مصر، وحتى 1952 عندما تنازل حفيده الملك فاروق عن العرش ورحل على يخت المحروسة إلى أوروبا. بعد سبات طويل، يعود المصريون اليوم، إلى تلك الفترة من حياة بلادهم، بشغف كبير، وكأنما ليعيدوا الاعتبار لباني دولتهم الحديثة، وليكتشفوا ما بقي طي الوثائق والمحفوظات. ثمة ما تم اكتشافه، وأشياء لا تزال تحتاج الكثير من النبش. لكن المصريين لا يزالون يتساءلون، من هو محمد علي؟ وما الذي أنجزه؟ وما هو موقعه الحقيقي من حياتهم الحالية؟

 

منذ عام 2005 عقدت مؤتمرات كثيرة ونشرت أبحاث وكتب أكثر من أي وقت مضى، عن شخصية محمد علي، بمناسبة مرور 200 سنة على توليه حكم مصر. ورغم أن هذه المؤتمرات كونت رأيا عاما، يعبر عن الاتجاه السائد في الحكم عند محمد علي وعصره، إلا أنها طرحت بقوة مسألة رد الاعتبار، الذي يأتي متأخرا دائما، للعديد من الشخصيات التاريخية التي تتعرض للظلم.

"محمد علي ظلمه عبد الناصر، وطعن في شرعيته، حتى لا تسلب شرعية الثورة". هذا هو رأي رفعت هلال، رئيس الإدارة المركزية للوثائق المصرية. ولكن الظلم الذي تعرض له محمد علي في رأي المؤرخ صابر عرب، رئيس هيئة «دار الكتب والوثائق المصرية» أسبق كثيرا من عصر عبد الناصر. فقد بدأ هذا الظلم عن طريق كتابات ظهرت في فرنسا في أعقاب الحرب العالمية الأولى اعتمدت على الوثائق الفرنسية، وانتقدت معظم هذه الكتابات قسوة محمد علي وخصوصا في إدارته للمنافع العامة التي سخر فيها المصريين في ظل أوضاع اجتماعية وإنسانية غاية في السوء. وما بين مطرقة الظلم الشديد وسندان الإنصاف المبالغ فيه، تضيع أجزاء من الحقيقة التاريخية المجردة، ولعل هذا هو السبب الذي دعا الباحث رفعت هلال لأن يؤكد أن التاريخ لا يظلم أحداً، وأن الحقيقة تظهر في النهاية دائما، ولكن بعد أن ينتهي العصر الذي ظهرت فيه الشخصية المثيرة للجدل، وانعدام الخصومة مع أفكارها واتجاهاتها وسياساتها. ويحدد الباحث رفعت فترة عشر سنوات بعد انتهاء عصر مثل هذه الشخصية، لبداية دراسته دراسة محايدة.

والمعادلة التي يطرحها هلال في الحكم على الشخصيات التاريخية هي ببساطة وجود من يقف معها فيصور كل ما فعلته خيراً، ومن يقف ضدها فيصور كل ما فعلته شراً. ولكن يسود في النهاية تيار سائد يعبر عنه اتفاق العلماء، وفقهاء التاريخ. والتيار السائد فيما يخص محمد علي هو أنه باني مصر الحديثة، بكل ما يحمله معنى البناء، وهو ما قد يبرر له بعض القسوة التي صاحبت عملية البناء. وهي قسوة يراها هلال ضرورية في فترات بناء الأمم، ويستشهد بالتجربة الكورية، التي كافحت الجوع في الخمسينات، وبالصرامة استطاعت أن تصبح اليوم من القوى الاقتصادية العالمية.

ولكن إذا طبقنا هذه المعادلة على شخصية محمد علي فسوف نلاحظ أن الأحكام التي صدرت ضده في دراسات بداية القرن كانت قد تمت بعد انتهاء عصره، واختفاء معاصريه، وضعف خصومته. ولهذا يشير الباحث صابر عرب إلى أهمية دراسة الوثائق المتعلقة بالحقب التاريخية المختلفة، فهي التي تجلي الحقيقة التاريخية كاملة دون توجيه الاتهام أو الإدانة لأحد، وكذلك دون كيل المديح لهم.

وعن الوثائق المتعلقة بعصر محمد علي، يقول صابر عرب إن محمد علي نفسه أنشأ الدفتر خانة عام 1828 بهدف جمع وتنظيم إدارة الوثائق، وليس من المتصور أنه كان يفعل ذلك من أجل أن تكون مصدرا للكتابة التاريخية. ولكن الرجل بخبرته التاريخية وبمشورة أصدقائه الفرنسيين، وجه عنايته للوثائق وضبط إداراتها والسيطرة عليها ـ ولم يكن يعلم وهو يفعل هذا أنه يقدم خدمة جليلة للتاريخ المصري، وأنه يحافظ على الذاكرة التاريخية للأمة المصرية.

أما هذه الوثائق، فكما يؤكد صابر عرب لم يفكر أحد من أبناء محمد علي في دراستها وتيسير الاطلاع عليها، ولا حتى من أحفاده، حتى عصر الملك فؤاد، وسبقه جهد طفيف من الخديوي عباس حملي الثاني، الذي سمح لفرحيان الأرمني بالاطلاع على الوثائق العثمانية وترتيبها، وترجمتها وتلخيصها وجمعها في 38 كراسة عام 1897. وللأسف ضاعت هذه الكراسات إلا واحدة ترجمها موظف فرنسي اسمه تالاماس ونشرت بالفرنسية في مصر عام 1914.

ويواصل صابر عرب رصده لمسيرة الوثائق التاريخية الخاصة بعصر محمد علي، فيشير إلى جهود الملك فؤاد في هذا الصدد، عندما أمر بتشكيل لجنة برئاسة حسن باشا نشأت عام 1925 لجمع وثائق عصر محمد علي من اللغات العثمانية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية وتصنيفها وترجمتها إلى اللغتين العربية والفرنسية، والأخيرة كانت تهدف إلى الرد على الدراسات الفرنسية التي اعتقد أنها شوهت صورة محمد علي. وكان من الطبيعي أن تركز هذه الجهود على إظهار الإيجابيات وعظمة محمد علي العسكرية والسياسية والإدارية، وأظهرته على أنه هو المحرك الأول والوحيد للنهضة، مع إغفال دور الشعب الذي كان هو القاطرة الحقيقية لكل انجازاته.

وفي الأعوام الأخيرة أصبح هناك جهد منظم لدراسة الوثائق والتعرف على الحقائق مجردة. وهناك مشروع طموح من «دار الكتب والوثائق القومية» لترجمة ونشر الوثائق الأجنبية المتعلقة بحكم محمد علي، بمشاركة «المركز القومي للترجمة»، وصدر منها جزءان: أحدهما عن البحرية المصرية والآخر عن العصر الذي سبق تولي محمد علي الحكم في مصر. والأخير على درجة كبيرة من الأهمية، لأنه يقدم حالة مصر منذ عام 1801 وحتى 1804 أي قبل عام واحد من تولي محمد علي السلطة رسميا. والدارس لهذه الحالة يدرك مدى الإنجاز الذي حققه محمد علي في بناء مصر الحديثة، فمصر قبل محمد علي مختلفة تماما عن مصر بعدها. ربما لا يكون الفضل لمحمد علي وحده، وربما يشاركه أيضا الشعب المصري الذي كان عازما على الخروج من الكبوة المظلمة التي عاش فيها حتى حكم وتحكم المماليك الجاهل.

يقول صابر عرب عن هذه المرحلة: «معظم الكتابات التاريخية عن هذه المرحلة قد عنيت بالحملة الفرنسية أو الإنجليزية بينما سقطت الفترة التاريخية التي سبقت تولي محمد علي من الذاكرة التاريخية، وجاءت معظم الكتابات على شكل أدبيات، أكثر منها معلومات تاريخية موثقة. ولكن الوثائق المنشورة أخيرا أفردت مساحة كبيرة للواقع المصري بكل مآسيه، وسجلت ملامح الوعي الوطني من خلال رصدها لحركة الحياة المصرية، ونبض الشارع المصري، ونمو الزعامة الوطنية، التي خرجت من رحم الشعب المصري معبرة عن مطالبه الحقيقية».

ويؤكد صابر عرب على أن مصر كانت تمر في ذلك الوقت بعصر يتسم بالفوضى الضاربة. فقد كشف رحيل الفرنسيين عن حالة الانقسام التي عمت صفوف المماليك، ففريق منهم رأى أن يستظل بحماية الإنجليز، وقد تزعم هذا الفريق محمد بك الألفي وفريق آخر فضل الاعتماد على الفرنسيين وقد ترأس هذا الفريق عثمان بك البرديسي، وفريق ثالث التزم الحياد أو موالاة الأتراك، وعلى رأسهم عثمان بك حسن، وجميعهم قد ضعفت شوكتهم وتبددت هيبتهم في عيون المصريين.

لقد نظر المصريون ـ والكلام لا يزال للدكتور صابر عرب ـ بقدر هائل من السخط إلى المماليك والعثمانيين بسبب فرض الضرائب الباهظة والقسوة في المعاملة. وكانت الحملة الفرنسية سببا مهما في ظهور زعامات وطنية حظيت بإجماع المصريين من أمثال عمر مكرم والشيخ السادات والشيخ الشرقاوي والشيخ محمد الأمير وغيرهم.

وفي الوقت الذي شدد فيه السلطان العثماني على أهمية استعادة مصر عقب رحيل الفرنسيين والتخلص من البكوات الذين تسببوا في تدهور الحياة المصرية، إذا بالمماليك أشد إصرارا على استعادة نفوذهم ولذا أعلنوا التمرد على السلطان، واستنجد بعضهم بالفرنسيين، والبعض الآخر بالإنجليز. وأنهك الصراع القوى المملوكية والعثمانية المتنافسة مما أتاح لقوى مثل الأرناؤوط فرصة الاستقواء، ولجأ إليهم فريق من المماليك ولكنهم تعاطفوا مع الشعب المصري الذي كان يعيش محنة حقيقية دفعتهم إلى الثورة لدرجة جعلتهم يقتلون العديد من محصلي الضرائب.

ولهذا يمكن القول إن مصر كانت تعيش عصر الفوضى، ولكنها فوضى خلاقة أدت إلى دخولها عصرا جديدا لإعادة بناء ما تهدم خلال القرون السابقة كلها. من هذا المنظور يمكن رؤية محمد علي الذي قرأ كتاب الأمير لميكافيللي، ولم يعجبه كما تدل على ذلك وثائق إيطالية في تلك الفترة، ولكن لا بد أنه استفاد منه في إدارة شؤون الدولة التي كونها بنفسه، وخاصة عدم تعارض المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة، ولهذا فإن مصلحته الخاصة هي التي دفعته إلى بناء دولة قوية أدخلت مصر إلى العصر الحديث.

* دولة محمد علي في الوثائق الإيطالية

> «مصر في عصر الفوضى» كتاب يعرض الوثائق الإيطالية غير المنشورة بترجمة ولاء عفيفي وهيثم كمال وهدى عبد العاطي، ومراجعة حسين محمود وجمال زكريا قاسم، وتقديم محمد صابر عرب، صدر عام 2007 عن «دار الكتب والوثائق القومية» و«المشروع القومي للترجمة».

يغطي الكتاب الوثائق الإيطالية في الفترة من يوليو عام 1801 إلى يوليو 1804 وقام بتصنيفها مؤرخ إيطالي استدعاه الملك فؤاد لدراسة الوثائق الخاصة بعصر جده، ولكن لسبب لا نعرفه نشر الجزءين الأول والثاني من وثائق هذا العصر، بعد أن وعد بتقديم تسعة أجزاء، لم نعثر علي أي منها، وربما تعرضت للرقابة بعد نشرها أو لم تنشر على الإطلاق.

وقام ساماركو بتجميع الوثائق من الأرشيفات المصرية والأوروبية، ومعظم الوثائق التي نشرها في هذا الكتاب موجودة بـ «دار الوثائق القومية المصرية». وهي تبدأ مع رحيل الحملة الفرنسية عن مصر، وتنتهي قبل عام من تولي محمد علي مقاليد الحكم في مصر. سنوات أربع شهدت فيها مصر كل أنواع الفوضى الممكنة وغير الممكنة، ولكنها انتهت بدخول مصر عصراً جديداً تماماً مختلفا عما كان قبله.

ومن خلال هذه الوثائق نستنتج، ان هذه الفوضى كانت تحمل آلام مخاض الولادة لمصر الحديثة، ليس فقط بقدوم محمد علي والياً عليها، وإنما أيضا للدور الذي لعبته الجماهير في وضع نهاية لهذه الفوضى.

ويشهد دي روسيتي، صاحب معظم الوثائق المنشورة في هذا الكتاب، والقنصل العام لبعض الحكومات الأوروبية الموجودة في ذلك العصر، على مدى قوة العناصر الأجنبية في مصر، وقدرتها على التحكم في القرارات التي يصدرها أي حاكم على مصر. فقد كان القناصل الأجانب يتمتعون بامتيازات كبيرة في مجال التجارة، تصل إلى حد الاحتكار في بعض الأحيان. وعندما كان باشا مصر يصدر قرارا يمس مصالحهم كان بمقدورهم الحصول على فرمان من «الباب العالي» يلغي هذا القرار. كما كانت لهم وسائل أخرى للاحتجاج على هذه القرارات مثل التهديد بإيقاف حركة التجارة والانسحاب من الحياة في المدينة التي يعيشون فيها.

نلحظ من محتوى هذه الوثائق أن ممثلي الدول الكبرى كان لهم رأي في الصراعات الداخلية، وأن الحملة الفرنسية وإن كانت قد جلت عن مصر إلا أنها تركت تأثيرا قويا للفرنسيين في مسار السياسة المصرية، كما نقلت الصراع بين انجلترا وفرنسا كقوى استعمارية عالمية إلى الأرض المصرية. وسجل دي روسيتي حالات المطاردة الدبلوماسية بين سفيري بريطانيا وفرنسا في مصر. كذلك الوجود القوي لهؤلاء الممثلين.

وكان المقر الرئيسي للممثليات الأوروبية في القاهرة، ولكل ممثل نائب في الإسكندرية، والممثل الموجود في القاهرة هو الذي يخاطب وزير خارجية بلاده، أما نائبه في الإسكندرية فيخاطب الممثل المقيم بالقاهرة والذي ينقل فحوى رسائله إلى وزير الخارجية. ومع ذلك ففي بعض الحالات التي انقطع فيها الاتصال بين القاهرة والإسكندرية كان نائب القنصل أو السفير في الإسكندرية هو الذي يخاطب وزيره مباشرة. كذلك نلحظ من الوثائق أن القنصل أو السفير لم يكن يمثل بلدا معينا، وإنما عدة بلاد في وقت واحد، وأنه لم يكن شرطا أن يكون السفير أو المندوب المقيم أو القنصل يحمل نفس جنسية البلد التي يمثلها، وهذا هو ما جعل الوثائق التي بين أيدينا مكتوبة باللغة الإيطالية ولكنها تسجل التقارير الدبلوماسية للدولة النمساوية والروسية وأحيانا السويدية، نظرا لأن قنصل هذه البلاد في مصر كان إيطاليا.

ولم يكن التاريخ وحده هو الذي يحمل صفة الخصوصية في تلك الفترة، وإنما الجغرافيا أيضا، فلم تكن الدول الأوروبية هي المعروفة حاليا، وكذلك إيطاليا التي لم تكن قد توحدت، فكانت فيها ممالك وجمهوريات ودوقيات وكلها مستقلة. ويبدو أن فيينا عاصمة النمسا كانت من مراكز السياسة الأوروبية المهمة في ذلك الوقت، وكانت لها علاقات عميقة مع الدولة العثمانية التي احتفظت بتحالفات أوروبية لها أهميتها، ومنها تحالف مع روسيا، حيث تشير إحدى الوثائق إلى أسطول عثماني روسي مشترك.

ويبدو أن التحالف البريطاني العثماني هو الذي أجبر الفرنسيين على الجلاء عن مصر بمساعدة المماليك، الذين تلقوا وعودا من الإنجليز والفرنسيين معا، ولم يستطيعوا الإفلات من القرار العثماني بإبادتهم. تلك الإبادة التي لم تكن وليدة قرار منفرد لمحمد علي بعد توليه السلطة فيما عرف باسم مذبحة القلعة. فالحقيقة أن المماليك وقادتهم من البكوات تعرضوا للعديد من المذابح قبل وصول محمد علي إلى الحكم، ولم تكن مذبحة محمد علي سوى ذروة هذه المذابح والقول الفصل في إنهاء عصر المماليك.

وما أثارني حقاً في هذا المشهد الرهيب الذي تعرضه الوثائق للحالة المصرية في السنوات التي تسجل أحداثها، هو أنه لم يرد ذكر لزعيم تلك الفترة نقيب الأشراف عمر مكرم سوى مرة واحدة في الوثيقة رقم 29 بتاريخ 6 مايو عام 1803. ويقول فيها دي روسيتي: «أخذ الكلمة عمر أفندي (نقيب الأشراف) منددا بالضرائب الجديدة والالتزامات الضريبية الباهظة التي ترهق الفقراء والمساكين. وبناء على كلمته تقرر رفع الضرائب الجديدة عن كاهل الشعب، وحظي الحاضرون بوعد من طاهر باشا ورجائي أفندي الدفتردار بهذا، وانتهى الأمر بأن تولى مهام منصبه». كانت الكلمة التي ألقاها عمر مكرم في مجلس عقد في منزل القاضي حضره المشايخ وكبار رجال الدولة. كان هذا المجلس بمثابة برلمان نخبوي يضم صفوة المجتمع، ففيه مشايخ الأزهر إلى جانب المسؤولين الكبار مثل عمر أفندي، وكان نقيبا للأشراف، وهو ما يعني أيضا أن المجلس تحضره فئات مختلفة من المجتمع. وكان من شأن هذا البرلمان أن يعين الوالي على مصر بدليل أنه عين طاهر باشا قائمقام، أي نائبا للوالي، حتى يُصدر له فرمان خاص بدرجة الوالي من الباب العالي. وفي رأيي أن وجود مثل هذا المجلس الذي يضم أعيان البلد دليل قوة ذلك العصر بكل ما يحمل من فوضى وصراعات. وهو أيضا دليل على أن كافة أطراف الصراع كانت تضع نصب أعينها مصلحة الشعب الذي يمكنه أن يحاسبها. أما الدلالة التي لا تخفى على أحد من خلال هذه الشهادة أن عمر مكرم كان خطيبا مفوها، فقد أثمرت كلمته عن إسقاط الضرائب التي فرضت على الشعب، وكان ذلك بمثابة الميثاق الذي يجب أن يسير عليه الوالي الجديد. صحيح أن طاهر باشا لم يف بالوعد وفرض ضرائب جديدة، ولكن هذه قصة أخرى ترويها وثائق هذا الكتاب وتقدم تحليلا لها من وجهة نظر مراقب أوروبي ربما لا يكون محايدا فيما يرى لكنه على الأقل، صادق في روايته التي يعتمد عليها اتخاذ القرار في دوائر صنع السياسة الأوروبية في ذلك الوقت.

بقي أن نقول إن الجزء الثاني من هذه الوثائق التي تسجل فترة تولي محمد علي للسلطة في مصر ربما يكون هو الأهم، لأنه سوف يتناول الفترة التي أمسك فيها محمد علي بزمام الأمور في مصر، مع ما صاحب هذا من أحداث على قدر كبير من الأهمية، أدخلت مصر إلى العصور الحديثة. ولكننا لم نعثر بعد على هذا الجزء، وربما يكون في الجمعية الجغرافية المصرية والتي كانت تسمى الجمعية الجغرافية الملكية وكانت هي الناشر الرسمي لهذه السلسلة من الكتب، ولكن ربما لم ينشرها ساماركو نفسه، لأنه يشير في تعليق على بعض الوثائق أنه لم يتسن له وضع المجلد الثاني لصعوبة الحصول على وثائقه. وفي هذه الحالة فإننا نعد بأن نبحث عن الوثائق الإيطالية التي تغطي الفترة التالية لعام 1804 سواء وجدناها في مصر أو في أوروبا، حتى يمكننا أن نكمل عمل المؤرخ الإيطالي الكبير وبنفس منهجه في تصنيف الوثائق وقراءتها.

 

 

 

الصفحة السابقة

 

Copyright 2008 © www.faroukmisr.net