مصرع
دولة النقراشى باشا
بقلم
: ياسر
قطامش
المكان
: مدينة القاهرة
الزمان
: شتاء سنة 1946
نحن
الان نتجول في قلب مدينة القاهرة
ولكنها غير القاهرة التي
نعرفها
الان.. إنها القاهرة في يوم
الثلاثاء 28 ديسمبر سنة 1948 حيث تقترب
عقارب
الساعة
من الرابعة بعد العصر
السماء
ملبدة بالغيوم ورذاذ المطر يتساقط
والشمس توشك
علي
المغيب والطرابيش الحمراء تغدو
وتروح وصفير 'الترماي' يختلط بكلمات
الأفندية
وصيحات
الباعة الجائلين.. وفي محل شيكوريل
بشارع فؤاد الاول نفاجأ بأسعار
زمان حيث
يعرض
البلوفر الصوف الرجالي بجنيهين
والقميص بستين قرشا والكرافة بعشرة
قروش يابلاش .
وتظهر
في الشوارع اعلانات لأحدث الأفلام
مثل فيلم عبنر
لأنور
وجدي وليلي مراد بسينما شبرا بالاس
وفيلم 'خيال امرأة' لكاميليا وكمال
الشناوي
بسينما الكورسال اما شكوكو، فقد
أعلن هو وفرقته عن احتفال رأس السنة
بأسعار
مخفضة
علي مسرح حديقة الأزبكية وانتهزت
الفرصة فرقة استعراضية تسمي 'اوتاسي'
العالمية
لتعلن عن سهرة رأس السنة مع 9 فتيات
جميلات في كازينو الكيت كات
ومكانه
الآن
مسجد خالد بن الوليد
وأخيرا علي كازينو بديعة مصابني
بالأوبرا نري الدبة
كاتيا
أعجوبة القرن العشرين وهي تعتلي
خشبة المسرح .
اقرأ
الحادثة :
فجأة
نسمع صوت باعة الجرائد وهم يهرولون
في
الشوارع
وينادون 'اقرأ الحادثة.. اغتيال
النقراشي باشا رئيس الوزراء'..
يتهافت
العابرون
علي شراء جريدة الزمان المسائية (لصاحبها
اوجار جلاد بك ورئيس تحريرها
جلال
الدين الحمامصي) وثمنها 10 مليمات (قرش
صاغ) حيث يتصدر صفحتها الأولي
مانشيت
كبير
بالبنط الاسود الثقيل 'مصرع دولة
النقراشي باشا' وفي تفاصيل الخبر
نقرأ
التالي
:
في
العاشرة الا الثلث من صباح اليوم
دخل ضابط بوليس برتبة
ملازم
اول صالة وزارة الداخلية في الطابق
الاول فأدي له حراس الوزارة التحية
العسكرية
وأخذ يقطع الوقت بالسير البطيء في
صالة الوزارة كأنه ينتظر شيئا
وعندما
أحس
بقرب وصولة دولة النقراشي باشا
اتجه نحو الاسانسير ووقف بجانبه
الأيمن وفي تمام
العاشرة
وخمس دقائق حضر النقراشي باشا ونزل
من سيارته محاطا بخرسة الخاص واتجه
للأسانسير
فأدي له هذا الضابط التحية
العسكرية فرد عليه مبتسما وعندما
أوشك
النقراشي
علي دخول الاسانسير اطلق عليه هذا
الضابط ثلاث رصاصات في ظهره فسقط
قتيلا
ونقل
جثمانه إلي داره بمصر الجديدة
وأعلنت محطة الاذاعة الحداد لمدة
يومين تقتصر
فيهما
البرامج علي القرأن الكريم
والأخبار والأحاديث بمعرفة
المذيعين وحدهم مع
اعفاء
المذيعات كنوع من الحداد .
من
هو القاتل ؟ :
أما
القاتل فقد اتضح انه ضابط مزيف كان
يتردد علي قهوة بالقرب
من
وزارة الداخلية
كان النقراشي رئيسا للوزارة ووزيرا
الداخلية في آن
واحد
.
وقال
رواد المقهي انهم عرفوا الضابط
المزيف باسم حسني افندي
وانه
تلقي مكالمة تليفونية قبل الجريمة
بعشرين دقيقة من شخص مجهول اخبره ان
النقراشي
باشا في طريقه الي مكتبة بوزارة
الداخلية.. أما الاسم الحقيقي
للقاتل فهو
عبدالحميد
احمد حسن وكان طالبا بكلية الطب
البيطري وعندما سأله المحقق عن
مصدر
البدلة
العسكرية اجاب بتهكم: في 'سوق
الكانتو منها كتير '.. وقد تجمل
الجاني ضرب
الجماهير
وهو في طريقه الي غرفة الامير الاي
محمود عبدالمجيد بك مدير المباحث
الجنائية
وقال في هدوء وثبات.. 'أيوه قتلته
واعترف بكده لانه اصدر قرارا بحل
جمعية
الاخوان
المسلمين وهي جمعية دينية ومن
يحلها يهدم الدين.. قتلته لاني
أتزعم شعبة
الاخوان
منذ كنت تلميذا في مدرسة فؤاد الاول
الثانوية .
وبعد
الحادث
بأربعة
أيام وفي جريدة اخبار اليوم
الصادرة صباح السبت اول يناير سنة
1949 نقرأ
العنوان
الرئيسي بالبنط الاسود الكبير قاتل
النقراشي له شركاء مع عنوان ثانوي
باللون
الاحمر: ابراهيم عبدالهادي باشا
سيجري الانتخابات القادمة
بالاضافة إلي صورة
الفقيد
بجوار صاحبة العصمة السيدة الجليلة
أرملته وكان النقراشي يمانع في نشر
هذه
الصورة
عندما كان علي قيد الحياة .
سطور
من حياة النقراشى باشا :
علي
الصفحة الثالثة من جريدة أخبار
اليوم نقرأ
مقالا
كبيرا عن حياة النقراشي ونعلم منه
انه ولد بالاسكندرية عام 1888م وتخرج
في
مدرسة
المعلمين العليا وعمل مدرسا بمدرسة
رأس التين الثانوية وتنقل في مناصب
التعليم
الي ان عين سكرتيرا عاما لوزارة
المعارف ثم وكيلا لمحافظة القاهرة
واختير
عضوا
في الوفد المصري مع سعد باشا زغلول
ثم اصبح وكيلا لوزارة الداخلية
وأحيل
المعاش
واعتقل عقب مقتل السردار الانجليزي
سيرلي ستاك سنة 1924 ثم أفرج عنه وصار
وزيرا
للمواصلات سنة 1930 وتزوج سنة 1934
ورزقة الله بولديه: هاني وصفية.. وقد
صار
هاني
دكتورا مهندسا الان ويقيم بألمانيا
وله نشاط كبير في مشاريع هندسية
خاصة بمصر
اما
صفية فقد تزوجت من د. شامل نجل
ابراهيم باشا دسوقي اباظة .
نعود
للنقراشى
باشا الذي تألق نجمة وتولي رئاسة
الوزارة مرتين: الاولي في 24 فبراير
سنة
1945 حتي
15 فبراير سنة 1946 والثانية في 9
ديسمبر سنة 1946 حتي اغتياله فتولي
رئاستها
بعده صديقه ابراهيم باشا عبدالهادي
رئيس الديوان الملكي انذاك وذلك
بتكليف
من
الملك فاروق .
ومن
المواقف الوطنية المشهودة
للنقراشي باشا انه
أعلن
علي الملأ في مجلس الامن يوم 5 اغسطس
1947 انه علي بريطانيا الجلاء التام
ودون
أية
شروط ومن أعمال وزارته: كهربة خزان
اسوان وانشاء كلية الضابط البحرية
بالاسكندرية
وانشاء البنك الصناعي وقناطر
ادفينا وتأميم شركة النور بالقاهرة
وغير
ذلك
الكثير ويذكر المؤرخ الكبير
عبدالرحمن الرافعي (1889
1966)
ان
النقراشي باشا
كان
وطنيا شريفا نزيهما نظيف الذمة
المالية ومن القلائل الذين لم
يتربحوا من وراء
مناصبهم
.
مصطفى
امين يتنبأ بأغتيال النقراشى :
علي
الصفحة الثالثة ايضا من جريدة
اخبار اليوم السابق ذكرها
نجد
مقالا بقلم الكاتب الصحفي المرحوم
مصطفي أمين (1914
1997)
تحت
عنوان النقراشي
كان
يعرف انه سيموت' يقول فيه: إنه ذهب
لزيارة النقراشي باشا في منزله قبل
اغتياله
بأسبوعين
تقريبا ولفت نظره اثناء جلوسه في
الصالون انتظارا لنزول الباشا ان
حوائط
المنزل
مزينة بصور اصدقاء النقراشي
الراحلين ومنهم الدكتور محجوب ثابت
وشاعر النيل
حافظ
ابراهيم ورفيق كفاحه أحمد باشا
ماهر رئيس الوزراء الذي أغتيل يوم 24
فبراير
سنة
1945 بالبهو الفرعوني الفاصل بين
مجلسي الشيوخ والنواب ورأي ايضا
والكلام
لمصطفي
امين
صورة مصطفي النحاس باشا رغم اختلاف
النقراشي معه في كثير من المواقف
مما
يدل علي وفاء النقراشي باشا
لاصحابه حتي ولو كان مختلفا معهم..
ودار الحوار بين
مصطفي
أمين والنقراشي حول القرار الذي
ينوي اصداره بحل الاخوان المسلمين
فتمسك
النقراشي
برأيه في ثبات عجيب 'عرف عنه منذ
شبابه الباكر ايام اشتراكه في ثورة
1919
وقال
بالنص: 'سوف اصدر القرار وانفذه
وبعد الاطمئنان علي الحالة سأستقيل
وأعود
معلما
كما بدأت وأعلم ابني هاني وصفية
بنفسي'!
ولما
رآه مصطفي أمين
مصرا
علي تنفيذ رأيه تنبأ باغتياله وقال
له: 'قد تكسب رأيك ولكننا سنخسرك..
وعاد
مصطفي
أمين بيته باكيا وكان يشعر وهو
يصافحه انه الوداع الاخير.. وتحققت
النبوءة
واغتيل
النقراشي.. فختم مصطفي امين مقاله
قائلا: تلقيت نبأ مقتل النقراشي فلم
ابك
ولم
انتحب لأني بكيته بالدمع السخين
قبل أن يموت باسبوعين .
حزنت
مصر
وجزعت
كثيرا لمقتل النقراشي باشا وشيعه
مجموع الشعب ليدفن بجوار صديقه
ورفيق عمره
أحمد
ماهر باشا في المدفن المقام بشارع
الملكة نازلي (رمسيس حاليا) بالقرب
من
مستشفي
دار الشفا بالعباسية ومن الغريب ان
القاتل أعلن ندمه عقب اعترافه
الجريمة
مما
علي ان النقراشي باشا كان مثالا
للوطنية الصادقة والشجاعة الادبية
والصرامة في
الحق
حتي أحبه مؤيدوه ومعارضوه علي
السواء .
وقد
توالت حفلات تأبين النقراشي باشا
وتباري
الشعراء والادباء في رثائه ومنهم
صديقه 'شاعر العدوية' علي بك الجارم
(1881
1949) بقصيدته
الغائية الفخمة ومطلعها :
ماء
العيون علي الشهيد ذراف
... لو
أن فيضا من معينك كافي
واذا
بكي القلب الحزين فماله ...
راق ولالبكائه من
شافي
ورثاه
ايضا صديقه المفكر الكبير عباس
محمود العقاد ( 1889
1964 )
بقصيدة
أنيقة
عنوانها 'الشهيد الأمين مطلعها :
أسفي
ان يكون جهد رثائي ... كلم عابر ورجع
بكاء
يرحم
الله مصر انك يا محمود في رحمة مع
الشهداء
رحم
الله محمود فهمي
النقراشي
باشا
.
|