مشروع متحف الحضارة المصرية

عندما حل الموعد لاقامة الجمعية الزراعية الملكية لاقامة معرضها الزراعى الصناعى ، سنة 1939 ، والذى يقام كل أربعة أعوام  ولما كانت الجمعية تتمتع بالرعاية الملكية كانت التقاليد تحتم أن يتقدم مجلس ادارة الجمعية الى مقام الملك بطلب المقابلة واستئذانه فى اقمة المعرض قبل الشروع فى اعداده ، وعندما علم الدكتور حسين حسنى باشا ، السكرتير الخاص للملك فاروق ، بطلب أعضاء مجلس الجمعية المقابلة والغرض منها بادر بتذكير الملك بالمشروع الذى أبدى أثناء رحلته فى أوربا اهتماما كبيرا بتنفيذه فى مصر فكلفه بتذكيره به وهو اقامة متحف كبير للحضارة المصرية منذ فجر التاريخ ، ولما كان تنفيذ مثل هذا المشروع الجليل الشأن على الوجه الائق لما تنفرد به مصر بين بلاد العالم بما يوجد على أرضها من آثار تمثل حضارة مختلف العصور منذ عرف الانسان الحضارة الى العصر الحديث مما يزيد أبناء الجيل الحاضر من المصريين اعتزازا بوطنهم وبتاريخه العتيق وما يزيد زوار مصر من الأجانب عرفانا بمكانتها الحضارية وتقديرا لجهودها لاستعادة ماضيها المجيد وذلك كان السر فى عناية الملك بهذا المشروع الكبير ، وهو ما كان يقتضى دراسة عميقة طائلة من مختلف النواحى الفنية والعلمية فضلا عما يستلزمه من اعتمادات مالية ضخمة مما يستدعى التريث والانتظارالفرصة الملائمة لتنفيذه ، لهذا كله وتمهيدا لتنفيذ المشروع واعداد الأذهان لادراك قيمته الكبرى ، فقد يكون من المفيد انتهاز فرصة اقامة معرض الجمعية الزراعية لانشاء نموذج مصغر لفكرة مشروع المتحف الكبير للحضارة المصرية .

وقد ابتهج الملك عند عرض هذا الموضوع عليه وطلب من سكرتيره الخاص اعداد مذكرة توضح الهدف الأساسى للمشروع الكبير ولمشروع النموذج الذى يرجو أن توفق الجمعية فى اقامه بعرضها القادم بمعاونة الجهات المختصة تحقيقا لبعض الفائدة المرجوه من وراء انشاء المتحف الكبير حين تتهيأ الظروف الملائمة لذلك .

وقام الدكتور حسين حسنى باشا باعداد المذكرة المطلوبة ( المرفقة ) وسلمها الملك الى فؤاد باشا أباظة ،رئيس الجمعية ، وأوصاه بألا يدخر وسعا فى تنفيذ مشروع النموذج المطلوب على أكمل وجه مستطاع وأنه من جانبه ( أى الملك ) سيكلف سكرتيره الخاص بأن يتعاون فى ذلك مع الهيئة .

وعلى أثر المقابلة الملكية بادر فؤاد باشا أباظة الى الاتصال بوزير المعارف للتفاهم على خير الوسائل للشروع فى تنفيذ المشروع ، فتكونت لجنة عامة لدراسة الموضوع من مختلف نواحيه ، وكانت تضم أكبر الاخصائيين فى تاريخ مصر وآثارها منذ عصر ما قبل التاريخ الى العصر الحاضر وكذلك بعض كبار الفنانين ، وعلى أثر اجتماع اللجنة العامة شكلت لجان فرعية اختصت كل منها باستعراض تاريخ وآثار عصر معين من عصور التاريخ واقتراح الموضوعات التى ترى مجوب اشتمال المتحف عليها ، وكانت مقترحات اللجان الفرعية تعرض على اللجنة التنفيذية العامة لتقر ما تراه منها ثم تحيله الى اللجنة الفنية لبداء الرأى فى خير الوسائل للتنفيذ .

ولقد كان قيام الحرب العالمية الثانية سببا فى تأجيل اقامة المعرض ، ولكن ذلك لم يدع الى وقف أعمال لجان النتحف بل رؤى انتهاز تلك الفترة لزيادة الدراسة واعطاء الفرصة للفنانين للتزود بالمعلومات التى تمدهم بها اللجان التاريخية حتى يصلوا بأعمالهم الفنية الى أقصى درجات الاتقان ومطابقة التاريخ .

وكانت حركة الاعداد لانشاء هذا المتحف بمثابة انطلاقة أفادت كثيرا من أبناء الجيل الصاعدين من الشبان الفنانين بتهيئة الجو أمامهم للتعمق فى دراسة تاريخ وحضارة بلادهم مما كان له كبير الأثر فى تطور الحركة الفنية الجديدة فى مصر ، فقد امتدت فترة اعداد وانشاء المتحف الى عشرة سنوات كاملة ، حيث لم تسمح الظروف بافتتاح معرض الجمعية الزراعية الذى كانت تنوى اقامته فى سنة 1939 الا فى سنة 1949 – أى بعد عشر سنوات من العمل والدراسة المتواصلة الجادة على يد أكبر من تضمهم مصر من الاخصائيين مثل : الأساتذة محمد رفعت وشفيق غربال ومحمد قاسم وابراهيم نصحى وسامى جبرة والمسيو دريتون وححسين فوزى فضلا عن مديرى المتاحف الأخرى .

وكانت الجمعية الزراعية قد خصصت لاقامة نموذج متحف الحضارة طابقا بأكمله فى السراى الكبرى لمعرضها ، وتبين بعدها انه لايكف للوفاء بالحاجة فألحقت به قاعتين كبيرتين فى الطابق الذى يليه خصصتا للمرحلة التاريخية التالية لعصر الحملة الفرنسية على مصر فى آخر القرن الثامن عشر تحت قيادة نابليون – أى من أول عهد محمد على باشا الى العصر الحاضر – وأما قاعات الطابق الأصلى للمتحف فقد ضاقت بما اشتملت عليه من ديورامات ولوحات ونماذج تمثل مختلف العصور .

وكانت قاعة المدخل تحتوى على تمثال لرجل الكهوف ( حين كان الانسان يعيش فيها ) طبقا لما أجمع عليه وصف علماء ذلك العصر ، فضلا عن مجموعة أوانى وآلات حجرية التى كشفت عنها حفائر الجامعة بجوار القاهرة ، والى جوار ذلك كان الحائط يحتوى على بعض ديورامات تمثل معيشة الانسان فى ذلك العصر ، فى حين رسمت لوحات على طول اطار الافريز – فى أعلى الحائط بجوار السقف لتكملة المشاهد التى تبين مراحل تطور حضارة الانسان فى ذلك العصر وتنتهى تلك اللوحات بمشهد يبين اتحاد الوجهين القبلى والبحرى فى مصر وابتداء عهد الحكم الملكى الشامل لمصر كلها – المعروف بعهد الأسرات – وهو ما تتناوله معروضات القاعة التالية – القاعة الفرعونية – وكانت تحتوى على مجموعة مهمة من المعروضات ، فالى جانب خريطة رسمت على الحائط لبيان الحدود التى وصلت اليها الامبراطورية المصرية فى عهد الفراعنة زين السقف بصورة للبروج السماوية منقولة نقلا دقيقا عن صورة تلك البروج كما نقشت فى سقف معبد أبيدوس ، وفى وسط القاعة وضع نموذج صغير كامل لمعبد الكرنك ، واستخدمت لوحات الافريز المجاور للسقف فى بيان عادات وطقوس قدماء المصريين فى مختلف ألوان الحياة ومعتقداتهم فى الثواب والعقاب فى الآخرة كما صفت بعض الديورامات لبيان ما وصلت اليه مصر الفرعونية من القوة والجاه ، وضمت دواليب الحائط مجموعة فريدة من نماذج الآلات والأسلحة ومتلف الحلى والأوانى والأدوات التى كان يستعملها الفراعنة .

وتلى القاعة الفرعونية قاعة خاصة بالعصر الاغريقى الرومانى فالعصر القبطى ، فالعصر الاسلامى فى مختلف مراحله الى العصر العثمانى فحملة نابليون على مصر وخصصت قاعة لبيان الروابظ التاريخية القائمة أبديا بين مصر والسودان من أقدم العصور الى العصر الحاضر والى جانبها أبدع الفنانون فى صنع خريطة مجسمة لوادى النيل طبقا للمقاييس العلمية للمرتفعات والمنخفضات والمعالم الطبيعية .

 وأما القاعتان الكبيرتان للعصر الحديث، فقد عنى فى احداهما بتسجيل كيف تمت مبايعة محمد على باشا بالحكم على أيدى علماء وزعماء مصر ، والى جانب ذلك عنى المتحف ببيان النهضة العلمية والصناعية فى مصر الحديثة فضلا عن أمجاد الجيش المصرى فى ذلك العهد وفى عهد الخديو اسماعيل وقام الفنان الموهوب محمود سعيد برسم صورة بديعة للحدث العلمى التاريخى الكبير بافتتاح قناة السويس ، كما خصصت ديوراما لتسجيل انعقاد أول مجلس نيابى مصرى ، وأما القاعة الكبرى الأخرى فقد خصصت لعهد الملك فؤاد والملك فاروق ومما حوته لوحة كبرى تصور افتتاح أول مجلس نيابى بعد اعلان استقلال مصر ولوحات وديورامات عديدة لبيان نواحى النهضة الحديثة لمصر وأهم ما مرت به من أحداث . 

وجملة القول فان المتحف حـقق الى حد كبير الغرض الاساسى من اقامته .  

 

الصفحة السابقة

 

Copyright 2008 © www.faroukmisr.net