الملك فاروق والحنين الى زمن اجمل فى عصر الانحطاط

 

مقالات د / سعد الدين ابراهيم

 

كل بضع سنوات يجود أحد التليفزيونات العربية بمسلسل متميز، يُقبل عليه الناس بشغف ، ويحرصون على مشاهدة حلقاته ، والحوار أو الجدل حوله ، وقد انطبق ذلك مثلا ً، على مسلسل "ليالي الحلمية" ، "وأم كلثوم" ،  "والحاج متولي" في الماضي ، أما هذا العام (2007) فإن مسلسل "الملك فاروق" يبدو الأكثر تألقاً وشعبية ، لا فقط بين المصريين ولكن أيضاً بين أبناء شعوب عربية أخرى ، في المشرق والمغرب ، وبين فئات عمرية مختلفة (شباب ، كهول ، وشيوخ) من الجنسين ، وهنا يصبح الحدث الترفيهي "ظاهرة اجتماعية" ، تستحق التأمل والبحث من علماء الاجتماع .

لقد تفتح الوعي السياسي عندي ، على ازدراء الملك فاروق ، في أوائل خمسينيات القرن الماضي ، فقد شاعت عنه في تلك الفترة قصص الفساد والانحلال ، وكذلك ما كان يتناقله الناس عن ضلوعه وحاشيته ، فيما عُرف وقتها عن تزويد جيش مصر في حرب فلسطين الأولى (1948-1949) بأسلحة فاسدة  أدت إلى هزيمته ، وقد تصادف ذهابي من قريتنا إلى الإسكندرية يوم 23 يوليو 1952 ، لقضاء جزء من الإجازة الصيفية ، عند أقارب لي هناك وفي القطار ، كان المسافرون يتناقلون أخبار انقلاب قام به الجيش ، سبقته مواجهة بين تنظيم "للضباط الأحرار" والملك فاروق ، في انتخابات نادي الضباط ، حيث نجح مرشحهم وهو اللواء محمد نجيب ضد مرشح الملك ، اللواء إسماعيل شرين ، ولم أكن قد تجاوزت الرابعة عشرة من عمري ، ولكني كنت مولعاً بمتابعة الشأن العام ، لذلك كنت أنصت باهتمام شديد لكل ما كان يقوله المسافرون معنا في القطار  من المنصورة إلى الإسكندرية ، ولأن "حركة الجيش" كما كانت تسمى في البداية وقعت في منتصف الليلة السابقة ، فإن صحف صباح 23 يوليو لم تتح لها فرصة نشر شيء عنها ، وحين وصلنا إلى الإسكندرية وجدت بيت عمي مليء بأصدقائه وزملائه ، وكانوا يناقشون نفس الحدث ، والذي كانت قد تجمعت عنه مزيد من الأخبار والتفاصيل ، عما كان متاحاً للمسافرين بالقطار قبل ساعات ، ومع اليومين التاليين كانت الصحف والمجلات لديها الكثير الذي تنشره ، ومع عصر يوم 26 يوليو ، سمعنا صوت المذيع الشاب ، جلال معوض ، يذيع بياناً بإنذار وجّهه "الضباط الأحرار" للملك فاروق ، لكي يتنازل عن العرش لولي عهده  الأمير الطفل أحمد فؤاد ، ويغادر البلاد قبل السادسة مساء نفس اليوم ، وأذكر كم تملكتنا الفرحة  وخرجنا من منزل عمي في حي باكوس  مشياً على الأقدام على الكورنيش  متجهون غرباً إلى منطقة قصر رأس التين، حيث قيل لنا أن الملك سيغادر منه ، على ظهر يخته المحروسة، في طريقه إلى إيطاليا ، ورأينا من بعيد اليخت وهو يُبحر ، بعد أن أطلقت المدفعية إحدى وعشرين طلقة كتشريفة وداع وقورة ، كما تقضي التقاليد .

تذكرت هذا كله وأنا أتابع حلقات مسلسل الملك فاروق ، صحيح أنني راجعت كثيراً مما كان يقال عن الملك فاروق ، أثناء دراستي بالخارج ، حيث توفرت لي مصادر ومراجع أكثر دقة في المعلومات ، وأكثر موضوعية في السرد والتحليل ، عما كان يُشاع بين العامة قبل حركة الجيش ، وعما أشاعه "العهد الجديد" عن "العهد البائد" للملك فاروق وأسرة محمد علي ، التي حكمت مصر لقرن ونصف من الزمان (1804-1952) ، ولكني أعترف أن المسلسل التليفزيوني كان أكثر تأثيراً في المراجعة والموازنة من أي شيء قمت به نظرياً خلال السنوات السابقة ، لذلك لا بد من التنويه بالمجهود الخارق للعادة ، الذي قامت به د/  لميس جابر مؤلفة المسلسل ، والمخرج السوري حاتم علي وكوكبة الممثلين الذين أتقنوا وأبدعوا ، فأمتعوا .

لقد أعطى المسلسل صورة صادقة لمصر في العهد الملكي الليبرالي ، حيث كانت هناك تعددية حزبية ، وبرلمان مليء بالحيوية السياسية ، وحيث الباشوات وصراعاتهم ، والقصر الملكي ودسائسه ، والإنجليز وسطوتهم ، وإن كان احتلالهم للبلاد قد انكمش ، إلا أنهم استمروا يؤثرون على مسيرة الأحداث المصرية ، ولو من وراء ستار في معظم الأحيان ، ولكن في العلن ، جهاراً نهارا ً، إذا استلزم الأمر ، كما في حادث 4 فبراير  1942، والذي صوّره المسلسل بدقة واقتدار .

كانت تلك الحقبة مليئة بالصراعات ، ولكن كانت تحكمها قواعد ، تلتزم بها كل أطراف اللعبة السياسية في البلاد ، بما في ذلك القصر الملكي ، أي أن سلطة الملك ونفوذه كانا محكومان بالدستور والقوانين والأعراف ، ومن هنا حاجة كل أطراف اللعبة إلى كسب الرأي العام ، بما في ذلك الملك ، لمساعدته في مواجهة الخصوم ، وربما كان تصوير المسلسل لتفاصيل هذا المشهد ، هو الذي خلب وجدان المشاهدين ، وكانت قواعد نفس اللعبة تحكم أعضاء نفس الحزب في خلافاتهم وصراعاتهم ، لذلك جاءت أحد تفريعات المسلسل التي ركزت على العلاقة الحميمة والمعقدة بين مصطفى النحاس باشا ، زعيم حزب الوفد، ومكرم عبيد باشا ، سكرتير الحزب وأحد شخصياته الأسطورية ، فقد تزامل الرجلان كشباب في طليعة ثورة  1919، ثم في عضوية حزب الوفد تحت زعامة سعد زغلول ، لذلك حينما احتدم الخلاف بينهما ، وانفجر في العلن ، لم يقتصر الألم والمعاناة على الرجلين ، ولكنه شمل زوجتيهما (زينب وعايدة) .

 وحاولت الزوجتان الوفيتان محاولات مستميتة لرأب الصدع بين الرجلين العملاقين المقتدرين ، ولكن كان في مقابل الزوجتين ، أحمد حسنين باشا والملك يعملان في الاتجاه المضاد ، لإضعاف النحاس ، ذو الشعبية الطاغية ، بحرمانه من أكثر أصدقائه بلاغة ووفاء ، ونجح المسلسل في إبراز عمق مشاعر الحب والتقدير بين الرجلين وأسرتيهما بقدر ما صور ضراوة الصراع بينهما في خريف العمر .

ومن تفريعات المسلسل الأخرى العلاقة الأكثر تعقيداً بين الملك فاروق ، ووالدته الملكة نازلي ، والتي كانت بدورها قد تعرضت لمعاملة قاسية من زوجها الملك فؤاد ، لذلك انطلقت نازلي بعد وفاة فؤاد ، ودخلت عدة مغامرات رومانسية ، مع رجال آخرين ، بما فيهم رئيس الديوان ، أحمد حسنين باشا ، وقنصل مصر في القدس ، وتبدو ملامح "عقدة أوديب" في مشاعر وسلوك فاروق نحو أمه .
ولم يغفل المسلسل عن إضفاء لمسات وخلفيات صاحبت السياق الدرامي الرئيسي للمسلسل ، من سيرتي وصوتي
أسمهان وأم كلثوم
، والجامعة العربية ، وإرهاصات المسألة الفلسطينية .

ظهر الملك فاروق إنساناً ، ككل إنسان ، له فضائله ورذائله ، حسناته وسيئاته ، قوته وضعفه ، وفي عدة مواقف أوحت الحبكة الدرامية ، وربما الحقيقة ، انه ضحية ظروف تكالبت عليه ، أو دفعته إلى نزوات وسقطات ، ومع ذلك كله أقنعنا المسلسل أن حب فاروق لوطنه مصر ، كان عميقاً وصادقا .
كان زمن المسلسل جزءاً من عصر ليبرالي ازدهرت فيه الحريات والآداب والفنون ، كانت فيه خصومات وصراعات ، ولكنها لم تتحول إلى عداوات أو تصفيات ، وربما هذه السمات هي التي جعلت كثيرين ممن تابعوه شعروا بالحنين إلى ذلك "الزمن الجميل" ، طبعاً ، معظم من عاشوا تلك الحقبة لم يكونوا يعتبروها زمنا جميلاً بالضرور ة، وأنا منهم ، ولكن جمال ذلك الزمن تحقق "بأثر
رجعي" ،  فما رأيناه بعد ذلك من قبح وانحطاط، من استغلال وانحلال ، جعل الناس تترحم لا فقط على زمن الملك فاروق والنحاس في مصر ، ولكن أيضاً على زمن الملك فيصل ونوري السعيد في العراق ، والملك إدريس السنوسي ومصطفى بن حليم في ليبيا ، فرحمة الله عليهم ، ولعنة الله على من خلفهم من مستبدين . آميـن .

 

مركز ابن خلدون للدراسات الانمائية

 

 

الصفحة السابقة

 

Copyright 2008 © www.faroukmisr.net