الشيخ
مصطفى اسماعيل ... سلطان التلاوة
بقلم
: سناء البيسى
والله
لقد كان فاروق ملكا يحمد فضله في
الكثير، ومن فيض حسناته أن كان
صاحب الأذن المرهفة لكل أداء
جميل ، فما أن ينصت لصاحبه
ويغمره سحره إلا ويصدر مرسومه
الملكي برفعته لمصاف الحضور
الدائم بين يديه، وشمله برعايته
وعنايته مع خلع الألقاب
والأنواط السامية عليه ومن
نفحات الأذن العلية الواعية ما
حدث في28 أبريل1948 عندما
ترامت إليها علي موجات الأثير
تلاوة آسرة للآيات البينات من
سورة الرحمن الرحمن علم القرآن
خلق الإنسان علمه البيان الشمس
والقمر بحسبان والنجم والشجر
يسجدان والسماء رفعها ووضع
الميزان ألا تطغوا في الميزان
.... و... ما إن تأتي خاتمتها
تبارك اسم ربك ذي الجلال
والإكرام بعد نصف ساعة من
العطاء النوراني نهل فيها فاروق
من الصوت الأخاذ الذي ملك عليه
الفؤاد حتي سأل فأجابوه وجاءوه
بصاحبه المقرئ الشيخ مصطفي محمد
المرسي إسماعيل من اختاره القدر
في تلك الليلة المبروكة ليسمعه
الجالس علي عرش البلاد فيعجب به
ليأخذ بيده ليتربع علي عرش
التلاوة وكان ذلك عندما أقامت
جمعية تضامن القراء حفلا دينيا
يحييه الشيخ عبدالفتاح
الشعشاعي وتنقله الإذاعة علي
الهواء مباشرة .
وبدأ
البث بالفعل لكن نجم الحفل ا
عشاعي لم يتمكن من الحضور
لإصابته بنزلة برد مفاجئة،
ولإنقاذ الموقف تحمس أحد معارف
الشيخ مصطفي ليدفع به إلي
الميكروفون ، وجلس شيخنا علي
الأريكة يتلو مما أعطاه الله
فالموهبة عطاء من الله يمنحه من
يشاء وقد أعطاه مولاه صوتا
يطرب الملائكة وتهتز له السماء
وينفذ إلي قلوب البشر سحرا
حلالا تخشع له الأفئدة وسمعه
المليك فأصدر أوامره فانطلق
مراد محسن باشا ناظر الخاصة
الملكية ليأتي بالجوهرة من بطن
أرض قرية ميت أبوغزال مركز
السنطة محافظة الغربية وفي
المكتب الخاص لناظر الخاصة يطلب
من المقرئ القادم بخاصته
المتفردة في الأداء قراءة بعض
السور للتذوق بنفسه قبل العرض
علي مولاه وبدأت التلاوة
بنفحتها السماوية ليخشع
السامعون من كبار موظفي القصر،
وتحدث الضجة قادمة من خلف الباب
صاحب الجلالة أستشعر فاروق
نفحات الصوت العبقري في أرجاء
القصر فانطلق من مجلسه للانضمام
إلي كوكبة السميعة، وفي نهاية
التلاوة صدرت الإرادة الملكية
بأن يغدو الشيخ مصطفي قارئ
القصر الملكي .
ويدعوه
الأزهر الشريف للقراءة في جامع
الأزهر في صيف1947 بعدما خلا
مكان قارئ السورة به، ويوقع
الشيخ الطلب الموجه لوزارة
الأوقاف لإجازة شغل المكانة
الرفيعة وانتظر طويلا خطاب
التعيين الذي لم يأته ولم تظهر
بوادره ، وطال الانتظار
ويسمع بالأمر كل من ناظر الخاصة
عاشق الصوت المهيب الجليل
الجميل ، ومحمد حيدر باشا
القائد العام للجيش ، اللذان
ينقلان الأمر الغريب للمليك ويصبح
الشيخ مصطفي مقرئ الأزهر أكثر
من ثلاثين عاما حتي وفاته لكن..
كيد الحاسدين كان عظيما، وأعداء
النجاح ليسوا أبناء اليوم بل
الأمس وأول الأمس فما إن توجه
القادم القارئ الضارب صفحا عن
الصغائر حتي فوجئ بأجواء مشحونة
داخل المسجد ، وظل يبحث عن الدكة
ليجلس عليها للقراءة فلم يجدها
وهي بحجمها المعهود لا تختفي
وإنما تندس بفعل فاعل ، وبحث عن
الميكروفون فلم يكن هناك
ميكروفون ، فنصحه مريدوه
بالجلوس علي الأرض والقراءة
بدون الميكروفون وبدأت تلاوة
الآيات البينات لكن هتاف
التشويش والصراخ علي المستمعين
ارتفعت حدته يطلب عدم السماح
للمطرب الذي يدعي تلاوة القرآن
بالاسترسال في تلاوته .
ويلتف
الأحبة حول الشيخ مصطفي وتقوم
معركة القراءة في رحاب الأزهر
تغلب فيها جمهور المصلين علي
المشاغبين المأجورين من قبل شيخ
آخر وظهرت الدكة والميكروفون
ولم يكن قد تبقي علي آذان الظهر
إلا عشر دقائق ، وبعد صلاة
الجمعة التف المصلون حول الشيخ
يطلبون المزيد فقرأ بعد الصلاة
مباشرة إلي أن أذن بهم للعصر ،
وبعد صلاة العصر خرج الشيخ
مصطفي إلي الطريق وحوله مظاهرة
اجتمع فيها ما يقارب ألفا من
المصلين واتجهوا إلي محل
العجاتي للغداء .
ومن رحاب الأزهر ينطلق الصوت
المعجزة إلي كل مكان في العالم
لينطبق عليه قول الرسول صلي
الله عليه وسلم عندما سئل عن
أحسن من يقرأ القرآن فأجاب : من
إذا سمعته يقرأ حسبته يخشي الله
، ويقرأ مصطفي إسماعيل في
أمريكا وأوروبا وآسيا ، ويسمع
المسلمون ترتيله في سان
فرانسيسكو وباريس ولندن
وكوالالمبور وأنقرة وكراتشي
واستنبول وطهران ودمشق وبيروت
وجميع العواصم العربية
وتسمعه قبة الصخرة وأركان
المسجد الأقصي وساحته وفلسطينه
كما سمعت من قبل داوود عندما كان
يقرأ يوما في الأسبوع في بيت
المقدس فيجتمع لسماعه الإنس
والطير والوحش، ويشبه الرسول
صلي الله عليه وسلم أبا موسي
الأشعري لما أعجبه صوته بقوله
: لقد أوتيت مزمارا من مزامير
داوود .
وليس
أنشط من ميكروفون الإذاعة مندوب
الشهرة وقتها ـ قبل التليفزيون
وشبكات النت ـ في وضع الموهبة
تحت الأضواء، فلم يكد الشيخ
مصطفي إسماعيل يسمع في
الميكروفون لمدة نصف ساعة
أسبوعيا حتي انتهي عصر وبدأ عصر
جديد للقارئ القادم من ميت غزال
مركز السنطة محافظة الغربية
ربيب كتاب الشيخ أبوحشيش وعصاه
الغليظة كان فضله كبيرا علينا
في حفظ القرآن وتجويده ، وأذكر
أنني أخطأت يوما في التسميع
فهجم علي وعضني في كتفي حتي
انبثق الدم ، وعدت إلي أمي وقلت
لها إن سيدنا عضني، فأحضرت
والدتي ترابا ووضعته علي الجرح
عصر ما بعد الإذاعة الجديد الذي
نال فيه مقرئ القرآن ممثلا في
الشيخ مصطفي إسماعيل عام1965
في عيد العلم نفس الوسام الذي
حصل عليه كل من الدكتور طه حسين
وفكري أباظة وأم كلثوم
وعبدالوهاب، وفي العام نفسه
يعلق له علي صدر الكاكولة تقي
الدين صلح - رئيس وزراء لبنان
وقتها - أعلي أوسمة لبنان ، وسام
الأرز ، وفي تركيا يستقبله
الرئيس فخري كورتورك في القصر
الجمهوري ويهديه مصحفا أثريا
مكتوبا بماء الذهب، ويحمل الشيخ
العبقري وسامين من لبنان أحدهما
برتبة ضابط والثاني برتبة
كوماندوز ، إلي جانب وسام
الاستحقاق من سوريا .
وكان
الشيخ لا يسافر للخارج إلا ومعه
عمامة احتياطية للطوارئ بعدما
طلب منه سامي الصلح رئيس وزراء
لبنان عمامته بلهجته اللبنانية
الودودة :
-
يا شيخ مصطفي بدي عمتك !
فخلعها
الشيخ وقدمها إليه فثبتها علي
رأسه قائلا بحبور :
-
تمام والله - كأنها معمولة من
شاني !
واستطرد
سامي الصلح قائل ا: ومن شان
هيك أنا باخدها !
وكان
الشيخ قد مكث طويلا رافضا
القراءة وراء ميكروفون الإذاعة
لإدراكه أنه يحتاج لأكثر من
النصف ساعة المعروضة عليه تلك
لمجرد التسخين كي ينفتح صوته
ويجلجل في الأرجاء للكشف عن
مكنون جواهره ، وذلك لتعوده علي
القراءة في السرادقات
والاحتفالات الدينية المختلفة
بالساعات ، كما كان لا يستمرئ
القراءة بين جدران الاستوديو
المسمطة بمعزل عن التواصل علي
الطبيعة مع سخونة وقع ترتيله
علي أفئدة المستمعين وعبارات
التشجيع المأثورة الله الله يا
عم الشيخ ويسكت فيلف الصمت
العميق الأرجاء إلا من رجع
الأنفاس ، ويعاود القراءة
فينتشي المستمعون يلهجون
بالثناء يمددون تعابيره مدا
يطالبونه بالتكرار ، فالنطق
صحيح للغة العربية ، وشئنا أم
أبينا فهو أداء غناء، فهي لغة
شعورية حسية ، قبل أن تكون
تشكيلية بصرية ، إنها اللغة
الشاعرة كما يسميها العقاد ،
ويروي الشيخ في حديثه عن
بداياته الإذاعية فيقول :
جاءني بعضهم في عربة الإذاعة
واستقبلتهم في ميت غزال لأقول
لهم إن لي ثلاثة مطالب أولها
القراءة لساعة كاملة ، والثاني
أن تتم التسجيلات في المساجد،
والثالث أن أجري خمسون جنيها في
القراءة الواحدة ،
وأبدا لم أكن أريد منهم
خمسين ولا ستين ، ولكني أردت
الخلاص من الإلحاح من جهة، ومن
جهة أخري كانت الإذاعة تدفع
للمونولوجست محمود شكوكو في
مونولوج حدرجي بدرجي خمسة
وثلاثين جنيها ، بينما تدفع
للشيخ محمد رفعت اثني عشر جنيها
، بينما تدفع للشيخ عبدالفتاح
الشعشاعي أقل من ذلك ، وللبقية
أمثال الفشني وعبدالعظيم زاهر
وشعيشع أقل من الأقل ، ولكي أسهل
عليهم الأمر عرضت عليهم القراءة
مجانا مع مطلبي الساعة والمسجد
، وأعطيتهم وعدا بزيارة مبني
الإذاعة في القاهرة تلبية لدعوة
المشرف علي برامجها الأستاذ
محمد فتحي الذي أطلقت عليه
الصحف لقب كروان الإذاعة ،
وسافر الشيخ يطرق باب الكروان
ليتذكر محبطا أول لقاء يرويه
لصديقه الكاتب والناقد الفني
كمال النجمي : لم ألق
الاستقبال اللائق بي كقارئ
للقرآن الكريم ، انتظرت ثلاثة
أرباع الساعة في حجرة سكرتير
الأستاذ محمد فتحي ، ثم أذنوا لي
بالدخول عليه فوجدته مشغولا
بمكالمة تليفونية طويلة ، ومكثت
واقفا دون أن يدعوني للجلوس،
فلما انتهي من مكالمته الطويلة
، نظرت إليه بغضب وقلت له :
أنا لا أريد العمل في الإذاعة ،
ولم أحضر إلي هنا لاستعطافك ،
ولكني حضرت لأني وعدت رجالك
بالحضور إليك ، وقد أدهشتني
طريقة استقبالك لي ، ولهذا لن
أعمل في الإذاعة ، وأرجو ألا
تتصلوا بي مرة أخري لأني لن أحضر
، ولبث الشيخ مصطفي إسماعيل
رافضا التعامل مع الإذاعة حتي
عام1948 عندما أقعد المرض
الشيخ محمد رفعت ، ولم يوقع
الشيخ مصطفي عقد الإذاعة
للتلاوة علي مدي نصف الساعة فقط
إلا رضوخا علي إلحاح مراد محسن
باشا وحيدر باشا ليظل بعدها
يقول: الثلاثون دقيقة ليست
هي مصطفي إسماعيل فجواهر
إسماعيل تتكشف كلما امتدت ساعات
القراءة وازداد الأداء تمكنا
وارتيادا لآفاق المقامات
مجلجلا بجوابات الجوابات التي
لم يصل إليها صوت غير صوته، ولا
حكمها أداء إلا أداؤه ، وسر
إسماعيل سألته عنه أم كلثوم دون
قصد بينما كان بيت القصيد:
انت تعلمت مزيكا فين يا مولانا ؟!
فأجابها نافيا علمه بالموسيقي ،
فعادت تستجوبه باندهاش :
وألم تعزف يوما علي أوتار عود أو
تداعب أصابع البيانو ؟! ، فقال
صادقا بعفويته الجميلة : لا أنا عرفت المقامات من السميعة
فكلما أقرأ آية أسمع واحد يقول
يا حلاوة الصبا .. يا مش عارف
إيه النهاوند .. إنها الفطرة
.. طريقتي في الأداء ، وحول تلك
الفطرة قال الشيخ درويش الحريري
: إنها أقوي وأصح من كل
الدراسات ولا يمكن لأي معهد فني
بأكمله الوصول إليها .
ومثل
أم كلثوم قال محمد عبدالوهاب
لعاطف مصطفي إسماعيل الابن
الأكبر للشيخ : كان والدك
يتمتع بمقدرة فائقة في تركيب
السلالم الموسيقية ، أبوك كان
يا ابني عبقري.. زمان كان
يحيي ليالي رمضان عند الملك
فاروق وكنا نأخذ عربية علشان
الناس ماتعرفشي احنا رايحين
نسمع مين لأنهم كانوا بيتلموا
حولنا بشكل غير عادي.. أنا
كنت حريصا علي سماع أبيك كل ليلة
، أروح أسمعه وأتعجب ، أربعين
سنة فشلت في أني أضبط ودني مع
صوته لأنه كان عنده عنصر
المفاجأة في كل آية من البداية
للنهاية.. فإذا ما حاولت
اللحاق بصوته يفاجئك حتي في
حالة تكراره للآيات ويكفينا
سماعه في قوله تعالي( الحاقة
ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة..
كذبت ثمود وعاد بالقارعة)
عندها نكتشف عظمة الأداء
والمفاجآت .
معجزة
التلاوة في مصر الشيخ مصطفي
إسماعيل مزج بين علم القراءات
وعلم المقامات الموسيقية مزجا
لم يسبق له مثيل ، بالفطرة ، حيث
كانت لديه من القدرة والموهبة
الخلاقة لاستحضار حجة القرآن في
صوته وبثها في الأفئدة.. سيد
التجويد الذي كان يحب لقب خادم
القرآن درس التجويد وعلم
القراءات علي يد الشيخ إدريس
فاخر المفتش العام علي الكتاتيب
كان يفتش علينا في الكتاب فكنت
اسمع له جزئين جزئين، وهو
يستوقفني للتصحيح، ولم يكتف
بالتسميع في الكتاب فكان يصحبني
معه ليسمعني علي الزراعية ولا
يكف يعيدني: ارجع يا ولد من
الأول وبعد تجويد إسماعيل
ومراجعة إدريس له في ثلاثين
ختمة وهو في سن الثانية عشرة تمت
مكافأة إدريس بتلبية جميع
طلباته طربوش وزعبوط ومركوب و
.. التجويد هو الإتيان بالشيء
الجيد وليس المقصود به التغني
أو التطريب ، وجاء في القرآن
ورتل القرآن ترتيلا أي زد في
تجويده بحيث تظهر القراءة
معانيه .. وعن جبير بن مطعم
قوله سمعت رسول الله صلي الله
عليه وسلم يقرأ في المغرب
بالطور فما سمعت أحدا أحسن صوتا
أو قراءة منه، فلما سمعته قرأ
: أم خلقوا من غير شيء أم هم
الخالقون خلت أن فؤادي قد انصدع
وكاد قلبي يطير ، وكان جبير هذا
مشركا حين سمع هذا ، فاهتدي إلي
الإسلام بما سمعه من ترتيل رسول
الله .
وذهبت
أستعلم فعلمت أن لتلاوة القرآن
أربعة أشكال متوارثة عن السلف
منها التدوير وهو القراءة
السريعة مع عدم الإخلال بحقوق
الحرف ، وهناك الحدر وهو أقل
سرعة، والترتيل وهو أقل سرعة
أيضا، والتجويد وهو الإجادة
التامة .. غاية المراد..
وورد أن عبدالله بن مسعود كان
يقرأ القرآن وكان الرسول صلي
الله عليه وسلم يستمع إليه،
فلما فرغ وعلم بوجود الرسول قال
: لو كنت أعلم أنك تسمعني يا
رسول الله لحبرته لك تحبيرا أي
لزدت في التجويد حتي يعطي كل حرف
حقه ومستحقه في المدود والقصور
والإظهار والإخفاء والاقلاب ،
أي كل ما يشكل النوتة الموسيقية
لتلاوة القرآن الكريم التي لا
يمكن تعلمها إلا بالسماع
والترديد ، والرسول الكريم
قدوتنا في ذلك فقد تلقي عن ربه
بالسماع والترديد عن طريق جبريل
، وكان نبي الله يتعجل القراءة
مخافة أن ينسي فطمأنه ربه قائلا
له سنقرئك فلا تنسي إلا ما شاء
الله .. أي لا تخف يا محمد،
فما عليك إلا أن تتلقي كما تبلغ
، لا تحرك به لسانك لتعجل به، إن
علينا جمعه وقرآنه ، فإذا
قرأناه فاتبع قرآنه ، وهنا
نتذكر دور الأستاذ في مقولة
حفظناها : لا تأخذ القرآن من
مصحفي ، ولا العلم من صحفي ،
فكلاهما معرض للخطأ في
ما ينقله إليك ، وأهم أحكام
التجويد والتلاوة في الوقف
والابتداء ، فالوقف مهم جدا
وإلا اختلفت المعاني اختلافا
جذريا ، وهناك كمثال ذلك الخطيب
الذي وقف بين يدي رسول الله وقال
: من يطع الله ورسوله فقد رشد
ومن يعصهما ، وتوقف ، فقال له
الرسول بئس الخطيب أنت ، قل ومن
عصهما فقد غوي .. فإذا ما
كان هذا الخلل قد اعتري كلام
البشر فكيف بالوقوف المخل في
قوله تعالي كمثال ولا تقربوا
الصلاة.. فتكملة الآية واجبة
والوقف هنا يخل بالمعني بل يأتي
بنقيضه .. وكذلك من لم يتلق
التلاوة علي يد أستاذ عالم تجده
قد يقرأ قوله تعالي طسم..
بدلا من طا سين ميم .. أو ألم
بدلا من ألف لام ميم .. وحم
عسق بدلا من حاميم . عيين .
سين . قاف، ويسأل سيدنا علي
كرم الله وجهه عن التجويد بعدما
قرأ الآية الكريمة ورتل القرآن
ترتيلا فأجاب : الترتيل
معرفة الوقوف ورغم أن القراءات
متشابهة إلا في الحدود
والإمالات والسكتات فقد قالوا
إن الشيخ مصطفي إسماعيل يستغل
اختلاف القراءات السبع في
التطريب وإظهار المقدرة بفتح
الحروف أو إمالتها أو ادغامها
أو ترقيقها ، وكانت رؤيته هو في
تلاوته أنه يلتزم الأصول، لأن
جميع القراءات متساوية في
صوابها وقد أخبرنا بذلك النبي
عليه السلام حين قال : أيما
حرف قرءوا عليه ، فقد أصابوا .
وتصحبني
سامية مصطفي إسماعيل زوجة
المهندس عمر راشد أحد أبناء
الشيخ الستة وهم بالترتيب إنجي
وعاطف وسمير ووحيد وسامية
وماجدة البنات خريجات
الأمريكان كولدج ، والأشقاء
كبيرهم المهندس محمد عاطف الذي
طاف وجال وأقام مشروعاته الضخمة
وبني بيتا يقيم فيه في بلدتهم
بـميت غزال منبت رأس والده في17
يونيو1905, تصحبني سامية في
جولة حب الاستطلاع لتضع أمامي
النقاط علي الحروف .. وأعرف
منها .. وأعرف الكثير
بالكلمات والوثائق والصور
والذي منه أن المذيعة المعروفة
الراحلة همت مصطفي ليست ابنة
للشيخ مصطفي إسماعيل ولا هي
الشقيقة من الأم فاطمة محمد عمر
ابنة دمياط التي أعجب بها الأب
من النظرة الأولي وتزوجها عام1931
ولا من أي زوجة أخري ، وربما
تعود تلك البنوة المزعومة أو
الأبوة الدخيلة من مناداة الشيخ
لها بـهمت يا بنتي كما كان
يناديها الرئيس السادات الذي
كان يقلد الوالد في تلاوة
القرآن داخل المعتقل، وبعدما
أصبح رئيسا كان حريصا علي
استدعائه ليقرأ له في بيته
بالجيزة.. وكان الشيخ مصطفي
هو الشيخ المعمم الوحيد الذي
صحب السادات في رحلته المفاجئة
إلي القدس عندما استدعوه في
السادسة صباح يوم السفر في
نوفمبر1977 ليقرأ في صلاة
الفجر بالمسجد الأقصي في عيد
الأضحي المبارك بصوت شجي حزين
علي الهواء عبر الأقمار
الصناعية، ليسمعه العالم أجمع،
فيثير ذكريات العرب والمسلمين
وأحزانهم علي مسجدهم الأسير..
ولم تكن المرة الأولي التي يزور
فيها الأب المسجد الأقصي ، فقد
كان تردده عليه كثيرا مع مسجد
قبة الصخرة للقراءة فيهما قبل
وقوعهما تحت الاحتلال
الإسرائيلي في5 يونيو1967..
هبطت طائرة السادات علي الأرض
في رحلة القدس ليصافح كبار
المستقبلين ومن بينهم موشي ديان
وجولدا مائير التي قال لها
الشيخ مصطفي مالك محنية كده ليه
؟! وكانت إقامتهم في فندق
الملك داوود..... كانت انطلاقة
والدي الأولي كما كان يروي لنا
من سرادق العزاء المهيب في طنطا
الذي أقيم عند وفاة صديقه حسين
باشا القصبي زعيم الطرق الصوفية
وحضره جميع باشاوات مصر ورجالات
عائلاتها الكبيرة لملوم وسراج
الدين والبدراوي عاشور ، وكان
علي رأس القراء الشيخ محمد رفعت
الذي أعطي الفرصة لوالدي
للقراءة حيث تجاوب لها الجميع
لمدة ساعة ونصف وبعدها أسدي له
نصيحته لكي يكون أعظم من قرأ
القرآن في مصر فهو كما سمعه صاحب
مدرسة جديدة ولم يقلد أحدا إلي
جانب حلاوة الصوت.. نصحه
بالدراسة علي شيخ كبير من مشايخ
المسجد الأحمدي .. سيرة حياة
الوالد فيها الحظ المواتي
والأسرة الحانية والزوجة
الواعية والمنافسون القساة ،
وقد عاش حياة منعمة فقد كان الجد
يمتلك مئات الأفدنة التي بددها
الكرم الحاتمي لكن ظل هناك ما
يكفي لحياة مستورة، وكان والدي
هو الطالب الوحيد في المعهد
الديني بطنطا الذي يرتدي
العمامة والجبة والقفطان بينما
بقية الطلاب لا يرتدون سوي
الجلباب، وكان جدي يرسل له
صينية حافلة بالغداء والعشاء
إذا ما ذهب للقراءة لدي أحد،
وعندما توالت الدعوات عليه
للقراءة في طنطا والبلاد
المحيطة بها امتلك العربة
الباكار، وقام بتأجير غرفة في
بانسيون تملكه يونانية ، وكأن
ما فعله هو الطامة الكبري، فقد
وشي به أحد الأصدقاء إلي جده ،
بأنه يسكن عند واحدة خوجاية،
فأقسم الجد أن يلقنه درسا
عصاته لا ينساه ، وعندما رأي
والدي وهو في السادسة عشرة ثورة
الجد ، أخرج له تسعين جنيها من
ثمار قراءاته طالبا منه أن
يشتري له أرضا ، ومن يومها
أصبحت قراءاته موردا جلب له من
بعدها فيلا يسكنها بالزمالك في6
شارع كلومباروني اشتراها في
يونيو1963 من إرسالية أفريقيا
الوسطي ثمنها7 آلاف جنيه
وكانت إقامته قبلها في فندق
شبرد بمبلغ4 جنيهات في
الليلة عندما يأيللقاهرة، ومن
فرط أناقته أطلق عليه الشيخ
الشعراوي لقب مانيكان المشايخ ،
وكان والدي يستشهد دائما بقوله
تعالي وأما بنعمة ربك فحدث وكان
اهتمامه بالغا بأثاث بيتنا،
فغرفة نومه من خشب الورد ثمنها
في عام 66 ما يقارب من ثلاثة
آلاف جنيه وكان دائم القول:
أنا لا أضيق علي نفسي وعلي
أولادي، فكل ما أكسبه أنفقه مع
الادخار للزمن، لأن الادخار
أيضا إنفاق ، ولكنه إنفاق مؤجل
لفترة مقبلة .. وأذكر أنه رفض
وجهة نظر الكاتب أنيس منصور عند
ظهوره في برنامج أهلا وسهلا
الذي كانت تقدمه المذيعة أماني
ناشد ويعده أنيس منصور، حيث طلب
منه أن يقول إنه تربي في بيئة
فقيرة وأنه كافح كفاحا مريرا
حتي يثبت وجوده وأن ما به من
نعمة إنما جاء بعد جوع ، فما إن
بدأ التسجيل وسألت أماني والدي
عن بداية مشواره حتي فاجأها
بقوله : الحمد لله فقد أنعم
الله علي بالخير الوفير منذ
نعومة أظافري وبداية حياتي مع
القرآن وما عندي مشلة من أي نوع
ولا في أي وقت ولكن الأستاذ أنيس
هو الذي يريد أن يغرقني في
المشاكل .. وتطلعني السيدة
سامية مصطفي إسماعيل بين أوراق
الراحل الغالي علي أعجب إقرار
من نوعه قد تم تسجيله في الشهر
العقاري وحكايته أن السيد
أبواليزيد يوسف عضو مجلس الأمة
بطنطا اتفق مع الشيخ مصطفي
إسماعيل علي أن يحيي له ليلة
مأتمه عندما يموت وأخذ عليه
إقرارا كتابيا بذلك، وكتب الشيخ
مصطفي علي ورقة تحمل عنوان
الجمهورية العربية المتحدة
مجلس الأمة الإقرار التالي:
أقر أنا المقرئ مصطفي إسماعيل
أنه إذا قدرت لي الحياة وتوفي
أبواليزيد يوسف عضو مجلس الأمة
الآن أن أقرأ في سهرة الوفاة
مجانا طول الليل بدون مصاريف
انتقال وبعدها ذيل الإقرار
بتوقيعه مصطفي إسماعيل
والتاريخ1966/10/27 ، وفي سفرياته
الكثيرة التقي بمواقف لها
طرافتها خاصة عندما تكون معاني
الكلمات مختلفة بينما اللغة
العربية واحدة ، وكان والدي
يضحك طويلا عندما يحكي لنا عن
رحلته إلي سوريا للتلاوة عند
أحد الأثرياء هناك، فبينما كان
جالسا مع العائلة بعد الغداء،
دنا منه أحدهم قائلا بهمس :
يا فضيلة الشيخ من فضلك تعال معي
.. وذهب الشيخ مع الرجل الذي
أدخله حجرة ترقد فيها سيدة تئن
علي فراش المرض فلما رأته سارعت
تقول له بلهفة : دعكني يا شيخ
مصطفي ! ويقول الشيخ : ارتبكت
عند سماع قولها( دعكني)
واحمر وجهي من شدة الخجل، ولم
أدر كيف اتصرف ، وابتعدت عن
الفراش بعد أن كنت قد دنوت منه
قليلا، ولم أجد كلمة واحدة
أقولها ردا علي طلب السيدة
المريضة ، حتي أدرك الرجل الذي
قادني إليها ما هنالك فابتسم
قائلا لي : يا شيخ مصطفي ، إن
السيدة تقصد أن تتفضل بقراءة
رقية لها لعل الله يشفيها !
واختار الوالد الرقية المناسبة
بعدما استوعب اختلاف المعاني
للفظة واحدة في نفس اللغة ، وكان
يومه الأخير الجمعة22 ديسمبر1968
عندما ودعنا في التاسعة صباحا
متجها إلي دمياط للقراءة في
افتتاح جامع البحر، وفي طريق
العودة عند مفترق الطريق بين
طنطا والمحلة الكبري طلب من
محرم السائق التوجه إلي
الإسكندرية ، إلي بيتنا في حي
رشدي ، وعندما وصل عاد ليطلب منه
تغطية السيارة وهو ما لم يفعله
من قبل ، ولما أبدي محرم دهشته
أجابه بالحرف الواحد : خلاص
يا سيدي أنا مش طالع تاني ، ولم
يكن من السهل تحقيق أمنيته في
دفنه في منزله إلا بعد الحصول
علي تصريح خاص ، وعندما علم
السادات بالوصية أشار علي
سكرتيره فوزي عبدالحافظ
بتنفيذها ، وبينما كان الجثمان
الطاهر قادما من المستشفي
بالإسكندرية كان قد تم تجهيز
القبر في حديقة بيتنا في ميت
غزال ، وانتزع نفسي من السيرة
العطرة ليواجهني حرج السؤال..
ألا يستحق فاروق منا ترحما وهو
من كان سببا في بزوغ نجم سلطان
التلاوة الشيخ مصطفي إسماعيل
وتعبيد مسيرته ليقرأ لنا من
آيات الذكر الحكيم53069 ساعة
وإن لم يبق لدينا منها سوي
ثلثمائة ساعة فقط، وقدم
للتليفزيون 25 تسجيلا بالصوت
والصورة لم يذع شيئا منها منذ
عام1982 حتي الآن ! فإذا ما
جازت الرحمة علي فاروق ملك مصر
والسودان فلنعرج قليلا إلي جده
إسماعيل من لم يكن كل فعله في
مصر ولمصر من باب الأذية أو
غراما في أوجيني جميلة الجميلات
كما لقنتنا القراءة المسيسة
للتاريخ ، فدفتر أحواله يقول
إنه الخديوي الذي أوقف لخير هذه
الأمة جميع ممتلكاته البالغة50
ألف فدان بخلاف العقارات
والقصور والمنقولات التي حصل
عليها منذ توليه الحكم في1863
حتي آخر أيامه في المنفي بالقرب
من مدينة ميركن التابعة لناحية
جلاطة في استنبول ، ليموت وماله
ما يمكن أن يوصف بأنه مال سوي
الثوب الذي يستر جسده ، ورحم
الله الجميع ، نحن وإياهم ،
ولنتدبر ما أنزل الله من آيات
بينات بلسان قرآني ناطق
بالفصاحة والعذوبة للشيخ مصطفي
إسماعيل قل هل يستوي الذين
يعلمون والذين لا يعلمون إنما
يتذكر أولو الألباب ، ننصت
ونعلم ونتذكر ونسبح في ملكوت
الله مع الصوت الذهبي فأنت معه
أثيري بلا جسد ، قارئ القرآن
الذي دعا له المستمعون كل ليلة
مئات المرات الله يفتح عليك يا
سيدنا الشيخ ، وفتح الله له
وعليه .
|
الشيخ مصطفى إسماعيل خلال زيارة لفرنسا سنة 1967
|
|
|
الملك
فاروق والشيخ عبد الرحمن شعيشع
والشيخ مصطفى اسماعيل
|
|