-
تبدأ
سيرة محمد علي باشا في الرابع
عشر من يوليو عام
١٧٩٩م، وكان نابليون
بونابرت قد دخل القاهرة، قبل
ذلك بشهر تحديداً في ١٤
يونيو عام ١٧٩٩م،
وهو اليوم المعروف في سجلات
التاريخ بموقعة «أبي قير البرية»
ولعب القدر لعبته البليغة في
هذا اليوم، حيث أنزل الأسطول
الإنجليزي جيشاً أرسله
العثمانيون لمحاربة نابليون
عند مدينة أبي قير،
-
وانتظر
وصول نجدات المماليك إليه
بفرسانهم واستولي الجيش علي
المدينة وقلعتها فلما وصلت
أنباء ذلك إلي نابليون كتم
الأخبار عن المصريين، وجمع فرق
جيوشه من الأقاليم ليجتمعوا عند
الرحمانية، وذهب إليها وزحف بها
إلي أبي قير، التي وصلها في
الخامس والعشرين من يوليو،
وأوقع بالعثمانيين هزيمة
منكرة، ورمي الكثيرون منهم
بأنفسهم في البحر هرباً ليصلوا
إلي الأسطول الإنجليزي، وأسر
نابليون قائد الحملة العثمانية
مصطفي باشا..
-
لكن
ليست هذه القصة سوي مقدمة
للمفارقة القدرية، فقد كان بين
أولئك الجنود الذين أشرفوا علي
الغرق جندي عادي جاء علي رأس
فرقة صغيرة من «قولة» وهو
الجندي محمد علي الألباني الذي
نجا من الغرق ليكون علي موعد مع
القدر ليحكم مصر، هو ونسله من
بعده طيلة مائتي عام وكأنه قد
قيض له أن يلعب أخطر الأدوار في
حياة مصر الحديثة.
-
اندلعت
ثورة القاهرة الثانية التي
استمرت سبعة وثلاثين يوماً،
والتف الشعب حول عمر مكرم، الذي
أصبح رمزاً للمقاومة، وتحقق
جلاء الفرنسيين بعد معركة
كانوب، والتي انتصر فيها
الإنجليز وتكبد الجيش الفرنسي
خسائر فادحة في الأوراح
والمعدات وزحف الجيش العثماني
الإنجليزي علي القاهرة، وأسدل
الستار علي الحملة الفرنسية بعد
ثلاث سنوات وثلاثة أشهر وكان
عدد سكان مصر آنذاك مليونين
ونصف المليون.
-
إذن
مصر الآن محل تنازع بين
العثمانيين العائدين
والمماليك، فضلاً عن الوجود
الإنجليزي، وكانت مصر آنذاك
خارجة لتوها من أقوي الاضطرابات
والأوبئة والحروب، وهنا قرر
قائد الفرقة الألبانية في مصر «محمد
علي » أن يقوم بمغامرته..
-
مراهناً
علي الشعب المصري لا علي أي قوة
من هذه القوي الثلاث وفي هذه
الفترة غير المستقرة شهدت مصر
مجموعة من التناحرات المتتابعة
بين المماليك والعثمانيين
وتعاقب الحكام علي مصر في وقت
وجيز، فكان أولهم «محمد خسرو
باشا» الذي كاد له محمد علي
واستطاع أن ينال منه إذ تم خلعه،
ثم جاء علي الجزايرلي الذي دبر
له محمد علي أيضاً بدعم من
المماليك الذين قتلوه،
-
ثم
أوقع بين البرديسي والألفي،
وأخذ يلعب محمد علي بأوراقه
بمهارة ومنها إعادة خسرو باشا
والياً علي مصر، فاستقر
للمصريين أن محمد علي لايسعي
للسلطة وتعلقوا به في مقابل رفض
الألبان والمصريين لخسرو باشا
فتم خلعه ليخلو منصب الوالي علي
مصر فأشار «محمد علي» علي
العلماء ورؤساء الجند بتولية
خورشيد باشا حاكم الإسكندرية
علي مصر فتم ذلك في مارس
١٨٠٤م،
-
ومالبث
أن اصطدم خورشيد بهذه القوي
التي تحرك الأحداث في مصر،
ممثلة في شخص محمد علي ولجأ
خورشيد للحيلة فأوعز إلي الباب
العالي أن يصدر فرماناً بدعوة
الأرناؤط الألبانيين إلي
بلادهم وتظاهر محمد علي
بالاستجابة للفرمان وادعي أنه
يقوم بالترتيبات اللازمة
للمغادرة لكنه أوعز للجنود أن
هذا الفرمان من شأنه أن يقوض
حقوقهم ويضيع مرتباتهم
المتأخرة وتحزب الناس والعلماء
والمشايخ وكان علي رأسهم عمر
مكرم لعرقلة هذا الفرمان وتم
إغلاق الأسواق والمتاجر وكادت
تقع فتنة لولا سارع محمد علي
بإعلانه عزمه البقاء في مصر
ارضاء للرأي العام وتهدئة
لثائرة الجند فعاد خورشيد باشا
ليبعث إلي الباب العالي طالباً
منهم أن يسعفوه بجيش من الدلاة..
-
غير
أن هذا الجيش الذي أراد خورشيد
أن يحتمي به هو الذي عجل بنهايته..
فقد عاثت جنوده في مصر فساداً
ومارسو أعمال السلب والنهب
وخلعوا أبواب البيوت
ليستخدموها للتدفئة وسرقوا
المحال والبيوت، واعتدوا علي
الحرمات،
-
والاعراض،
واستغاث الشعب بالوالي وانفجرت
الثورة في القاهرة في الثاني من
مايو عام ١٨٠٥م،
وطالب الشيوخ بجلاء الدلاة
وأعطوا الوالي مهلة ثلاثة أيام
فلما أرسل لهم رسولاً للتفاهم
رجموه بالحجارة، وقد وجد محمد
علي الفرصة مواتية ليوجه ضربة
جديدة فقد عرف الهدف من وصول هذا
الجيش وعاد من الصعيد إلي مصر
ونجح مع الدلاة فلم يحولوا بينه
وبين دخول القاهرة، واتصل بعمر
مكرم والعلماء وقادة الشعب يذكي
غضبهم، وفي هذه الأثناء صدر
فرمان بتعيين محمد علي والياً
علي جدة مع أمر بمغادرة مصر
فوراً إلي مقر ولايته وكان هذا
الفرمان هو المناورة الثالثة
لخورشيد باشا للإطاحة بمحمد
علي، وكعادته تظاهر محمد علي
بالانصياع ولبس حلة الوالي
وأصبح بذلك باشا،
-
وأقيم
احتفال بهذا والشعب أحياه، غير
أن ما استقر عليه عزمه كان غير
ذلك ولم يحل خورشيد باشا جيش
الدلاة وتأخرت رواتبهم فهجموا
علي القري واستباحوا كل شيء
فاندلعت ثورة شاملة علي الدلاة
وخورشيد والباب العالي وخرج
الناس يهتفون «يارب يا متجلي
اهلك العثماللي» وفي الثاني عشر
من مايو اجتمع زعماء الشعب في
دار الحكمة بينما أحاط بها
الجماهير، وطلبوا من القاضي أن
يرسل لاستدعاء وكلاء الوالي
ليحضروا مجلس الشرع، فأرسل
يستدعيهم فحضروا علي عجل ورفعوا
مطالب الشعب إلي خورشيد باشا،
لكنه رفض الاستجابة لها.
-
وفي
الثالث عشر من مايو عادت
الجماهير للاحتشاد بأقوي من
اليوم السابق حول المحكمة،
واتفق نواب الشعب علي عزل
خورشيد باشا وتعيين محمد علي
باشا وكان عمر مكرم هو روح هذا
القرار،
-
وقام
الشيخ الشرقاوي وعمر مكرم بحمل
القرار لمحمد علي الذي تساءل:
ومن تريدونه والياً فقالو:
لانرضي إلا بك وتكون والياً
علينا بشروطنا لما نتوسمه فيك
من العدالة والخير وتظاهر محمد
علي بأنه يقبل هذا مضطراً
فألبسوه خلعة الولاية، ورفض
خورشيد القرار واعتصم بالقلعة
ومعه طائفة الارناؤط
والانكشارية وحاول الاستقواء
بالمماليك غير أن محمد علي حاصر
القلعة وحال دون وصول أي إمداد
وفي ٩ يوليو ١٨٠٥
عزل الباب العالي خورشيد باشا
وأصدر فرماناً بتعيين محمد علي.