فاروق
والسياسة ... لعبة التحولات
الدراماتيكية
محمد
قرنة (mbc.net)
لم
تزد مدة ولاية الملك فاروق على
مصر عن 16 عاما منذ تنصيبه ملكا
على البلاد عام 1936 وحتى قيام
ثورة يوليو عام 1952، إلا أن
الملاحِظ لملامح هذه الفترة
الهامة في تاريخ مصر الحديث
يستطيع أن يرصد عديدا من
المواقف الدراماتيكية المؤثرة
والكفيلة بتغيير مجرى تواريخ
الشعوب في عصر هذا الملك
بالذات، انتهاء إلى حكم مصر
لأول مرة في تاريخها كله من قبل
أحد مواطنيها.
ولد
الملك فاروق في 11 فبراير عام 1920
ابنا للملك فؤاد الأول ملك مصر
والسودان وقتها، وعندما توفي
والده في إبريل 1936 خلفه الملك
فاروق على عرش مصر، وهو أول ملك
مصري يلقي بخطاب إلى الشعب بعد
تتويجه عبر الإذاعة، وإن لم يكن
قد بلغ السن القانونية آنذاك
فتكونت لجنة وصاية من كل من
الأمير محمد علي توفيق وعزيز
عزت باشا وشريف صبري باشا، إلى
أن تسّلم كامل سلطاته الدستورية
في شهر يوليو عام 1937 بعد خشية
والدته الأميرة نازلي من مطامع
الأمير محمد علي في الاستيلاء
على العرش واستصدارها لفتوى من
الإمام المراغي بجواز حساب
العمر بالتقويم الهجري ليصبح
الملك فاروق في الثامنة عشرة من
عمره.
كانت
الحياة السياسية في مصر في تلك
الفترة تعتمد على ثلاث قوى
رئيسية فاعلة هم الإنجليز
والقصر وحزب الوفد قبل أن يدخل
الجيش إلى المعادلة ويقلب
توازنات القوى فيها، جلس فاروق
على العرش مع اهتزاز وتراجع
شعبية حزب الوفد بعد توقيعه على
اتفاقية 1936 والتي كانت مكروهة
ومرفوضة شعبيا.
وعلى
رغم من حداثة سنه في تلك الفترة
أدرك فاروق ضرورة اكتساب تلك
الشعبية المفقودة من الوفد عن
طريق الظهور بمظهر القريب من
العامل والفلاح والمدافع عن
القضايا الإسلامية، تمهيدا
للدخول في صراعه الأول مع رئيس
حزب الوفد والحكومة وقتها
النحاس باشا، والذي ينتهي
بإقالة حكومة النحاس الوفدية في
30 ديسمبر 1937، أي نفس عام تسلمه
سلطاته الدستورية كملك على
البلاد، وتكليفه محمد محمود
الذي كان رئيسا لحزب الأحرار
الدستوريين الموالي للقصر
بتشكيل الوزارة.
وكان
أول ما استصدرته الوزارة
الجديدة مرسوما بتأجيل انعقاد
البرلمان شهرا، ثم حل مجلس
النواب بعدها ذي الأغلبية
الوفدية إلى أن تمت الانتخابات
في 1938 ولم يحصل الوفد سوى على 12
مقعدا فقط، والملاحظ في تلك
الفترة هو التعددية الحزبية
السياسية القائمة حتى ولو بشكل
صوري، حيث سُمِح في انتخابات 1938
مثلا بأن يتم ترشيح المستقلين
والذين حصلوا على 55 مقعدا بجانب
أحزاب الأحرار الدستوريين
والهيئة السعدية برئاسة أحمد
ماهر المنشق عن حزب الوفد،
بالإضافة إلى الحزب الوطني وحزب
الوفد.
الحرب
العالمية الثانية
ولم
يكد يمضي عام من محاولة إقصاء
الوفد عن الحياة السياسية في
مصر حتى قامت الحرب العالمية
الثانية بعد عامين من تسلّم
فاروق لكامل سلطاته الدستورية،
وبعد أسبوعيْن من تشكيل على
ماهر باشا للوزارة التي أعلنت
الأحكام العرفية في سبتمبر 1939،
وإن ظلت مصر عاما آخر بعيدا عن
الصراع والفوران الدولي
المتصاعد، وفي هذه الأثناء كانت
جماعة الإخوان المسلمين قد بدأت
تمارس ظهورها على الساحة
السياسية المصرية قبل الحرب
العالمية الثانية بشهور قليلة.
كما
تصاعدت شكوك الإنجليز حول وجود
قنوات اتصال خفية بين الملك
فاروق وبين ألمانيا وحلفائها،
وزاد غضبهم من حكومة علي ماهر
الموالية للمحور فتدخلت
بريطانيا مباشرة لإقالة
الحكومة لعدم تعاونها في اعتقال
الألمان ومصادرة أموال الشركات
الإيطالية في مصر ورضخ الملك
فاروق للمطالب حفاظا على عرشه.
وكان
مصطفى النحاس رئيس حزب الوفد
بعد أن تمت إزاحته عن الحياة
السياسية يأمل في الدخول لها
مجددا أو تحريكها من خارج
الأوساط الرسمية، فقام بإرسال
مذكرته الشهيرة في 5 أبريل 1940
إلى الإنجليز يطالبهم فيها
بالانسحاب الكامل لقواتهم من
الأراضي المصرية بعد انتهاء
الحرب والاعتراف بحق مصر في
السودان، وكانت هذه هي المرة
الأولى التي يتم فيها طرح
الانسحاب والجلاء الكاملين على
الملأ وبالطبع لاقى استحسانا
وحفاوة شعبية كبيرة أثارت قلق
الإنجليز.
كما
شهدت بداية عام 1941 أزمة حادة في
السلع التموينية وظهر مصطلح
طوابير الخبز وكان الناس يهجمون
على المخابز للحصول عليه أو
يتخطفونه من حامليه، وظهرت
النكتة الشهيرة عن إحدى
الأميرات التي عندما سمعت أن
هناك أزمة شديدة في الخبز
تساءلت باستغراب "طب ما
ياكلوا بيتيفور.. ياكلوا جاتوه..
ياكلوا كل اللي بيحبوه"
كإشارة لانعزال القصر عن الواقع.
وكانت
الجيوش الألمانية قد استطاعت في
بدايات 1941 السيطرة على عدد من
بلدان شمال أوربا بسهولة كبيرة،
مثل بلجيكا ولوكسمبورج،
وهولندا، ثم تدفق الألمان إلى
باريس وسيطروا على فرنسا، ولم
يبق أمام هتلر من قوة تتحداه في
أوربا سوى بريطانيا تلك
الإمبراطورية المترامية
الأطراف، ووجد هتلر أن غزو
بريطانيا يكلفه أكثر مما يستحق؛
لذا اتفق مع حلفائه الإيطاليين
في الحرب، على أن يهاجم
الإمبراطورية البريطانية على
ضفاف البحر المتوسط؛ وهو ما
سيؤدي إلى أن يفك البريطانيون
قبضتهم على هذه الشواطئ الهامة،
ولذا اتجه جيش ألماني قوي
بقيادة القائد الشهير أروين
روميل، بهدف دخول مصر واجتيازها
إلى قناة السويس، والتقدم من
سيناء إلى سوريا نحو الشمال
والشرق لتحقيق هدف آخر وهو
تكوين كماشة على الاتحاد
السوفيتي، تطبق عليه بالتزامن
مع هجوم ألماني من أوربا ينطلق
من بولندا.
وانطلق
روميل بطائرته التي هبطت في
طرابلس الليبية في فبراير 1941
لتحقيق هذا الهدف الألماني
الكبير، حيث كانت مصر محورا
هاما في هذا الصراع الدولي، وقد
ازدادت أهمية القاهرة والخوف
منها، مع تأثر بعض النخب
السياسية في مصر بالانتصارات
الألمانية، خاصة فاروق، بل إن
بعضها رأى في الألمان منقذا
لمصر من الاحتلال البريطاني، عن
طريق التنسيق مع الألمان ضد
بريطانيا مقابل حصول مصر على
استقلالها.
وأمام
هذا التحدي الكبير، قسمت
الإمبراطورية البريطانية
قيادتها إلى ثلاث جبهات رئيسية،
تبعا لضرورات الصراع، الأولى:
قيادة عامة، ومقرها لندن
يتولاها رئيس الوزراء، وهي
مكلفة بوضع الإستراتيجيات
العليا للحرب، وهي مسئولة عن
المسرح الأوربي، والثانية:
قيادة رئيسية في مصر ومقرها
القاهرة، ويتولاها وزير مفوض
ومعه السفير البريطاني في
القاهرة والقائد العام لقوات
الشرق الأوسط، ولها التصرف وفق
ما تقتضيه الضرورة دون الرجوع
إلى لندن، ولكن في إطار
الإستراتيجية العليا، والثالثة:
قيادة رئيسية في الهند، ومقرها
دلهي.
ووصلت
قوات روميل في الصحراء الغربية
إلى العلمين بجوار الإسكندرية
يوم 2 فبراير 1942، وخرجت
المظاهرات أثناء ذلك من الأزهر
وجامعة القاهرة بشعارات "يحيا
روميل، يحيا الملك، يسقط
الإنجليز" ويذكر عديد من
المؤرخين أن هذه المظاهرات خرجت
بإيعاز وتحريض من القصر، فبدأ
الإنجليز في التخطيط لحادثة 4
فبراير الشهيرة عندما طوّقت
الدبابات البريطانية مقر إقامة
الملك فاروق في قصر عابدين
وأجبرته على تعيين النحاس باشا
رئيسا للوزراء، وبذلك استغل
البريطانيون الفرصة لتجريد
الملك فاروق من نفوذه عن طريق
إرغامه على تعيين حكومة لا
يريدها وبذلك يفقد السيطرة
عليها، واستفادوا في نفس الوقت
من إضعاف الحكومة التي صعدت
لكرسي الحكم عن طريق الدبابات
البريطانية بعد أن اكتسبت بعض
الشعبية الوطنية المقلقة بعد
إرسال المذكرة سابقة الذكر التي
تطالب بالجلاء.
أطلق
لحيته
وقد
رأى فاروق في وزارة 4 فبراير
تحديا سافرا لسلطته، فقرر
اللجوء للخط الإسلامي،
فأطلق لحيته وانتظم في صلاة
الجمعة وسط الجماهير، وكثف
من اهتمامه بالقضايا
الإسلامية، ولم يسترح حتى
طرد هذه الحكومة في أكتوبر
1944 ولم يعترض الإنجليز على
طردها بهذه الصورة؛ لأن
الغرض منها قد استنفذ ولم
يعد هناك حاجة لبقائها،
وتعرض الوفد لصراعات عدة،
كان أهمها خروج الزعيم
القبطي الكبير مكرم عبيد من
الوفد، وتأليفه "الكتاب
الأسود" ضد حكومة
النحاس، كذلك نمت حركة
الإخوان المسلمين بدرجة
كبيرة مقابل تراجع شرعية
الوفد وشعبيته.
|
|
وقبل
إقالة وزارة النحاس بيوم واحد
كان قد تم التوقيع على بروتوكول
الإسكندرية الذي وقعته كل الدول
العربية ماعدا السعودية واليمن
وتضمن قرار قيام جامعة للدول
العربية تمثل فيها جميع الدول
المشتركة على قدم المساواة، وفي
أوائل مارس 1945 تم إصدار ميثاق
الجامعة والذي أكدت المادة
السادسة فيه على مكانة مصر حيث
نصت على أن تكون القاهرة هي
المقر الدائم للجامعة، وتم
اختيار المصري عبد الرحمن عزام
كأول أمين لها، وأقيمت أول قمة
عربية عام 1946 في قصر أنشاص
ببلبيس في محافظة الشرقية
المصرية وبدعوة من الملك فاروق،
وبمشاركة السبع دول المؤسسة
للجامعة العربية، وقد تمت كتابة
البيان الأول الذي أصدرته القمة
بماء الذهب.
ومع
انتهاء الحرب العالمية الثانية
في 1945 وظهور الولايات المتحدة
الأمريكية كقوة عالمية جديدة لا
يستهان بها بعد إلقائها
القنبلتين النوويتين للمرة
الأولى والأخيرة في التاريخ حتى
اللحظة، بدأ الملك فاروق في
التقرب من تلك القوة الجديدة في
محاولة للتخلص من السيطرة
البريطانية على عرشه وقراراته،
إلا أنه لم يلبث واصطدم بحرب
فلسطين عام 1948 والتي انتهت
باحتلال فلسطين وبقضية الأسلحة
الفاسدة التي اشتراها الملك
فاروق من إيطاليا بمواصفات لا
تتناسب مع الذخيرة المتواجدة
فكانت النتيجة ارتداد الأسلحة
إلى صدور ضاربيها، وكانت الضربة
الأهم التي تلقاها الجيش المصري
وأقسم على الانتقام.
وقد
تزوج الملك فاروق مرتين في
حياته؛ المرة الأولى وهو في
الثامنة عشرة من عمره حيث تزوج
من صافيناز ذو الفقار التي غيرت
اسمها بعد الزواج إلى فريدة
وأنجبت منه الأميرة فريال
والأميرة فريدة والأميرة
فادية، إلا أن الخلافات الدائمة
بينهما بسبب عجزها عن منحه ولي
العرش أدت إلى الطلاق في
النهاية، ولم تتزوج الملكة
فريدة بعد طلاقها من الملك
فاروق.
والمرة
الثانية كانت عندما شاهد الملك
فاروق ناريمان صادق في محل
جواهرجي تقوم بشراء خاتم
زواجها، فأعجبت الملك وأقنعها
بفسخ خطوبتها وقرر الزواج منها،
وفي عيد ميلاد الملك الحادي
والثلاثين عام 1951 تم إعلان خبر
خطبته إلى الآنسة ناريمان صادق،
وتم حفل الزفاف في مايو 1951، وفي
يوم 16 يناير 1952 دوت طلقات
المدفعية في سماء القاهرة، حيث
تم إطلاق 101 طلقة مدفعية في تمام
الساعة السادسة والثلث صباحا
إعلانا عن مولد أول طفل ذكر
للملك فاروق قبل موعد ولادته
الطبيعية بشهر واحد وهو الأمير
أحمد فؤاد، وعندما يقرر الملك
تقديم ابنه وولي عرشه إلى الجيش
في 26 يناير 1952، فإذا في ذات
اليوم ينشب حريق القاهرة ويتحول
الفرح المطالب الاحتفاء به إلى
جنازة.
وقد
قام الملك فاروق بتغيير عدد
كبير من الحكومات منذ حريق
القاهرة وحتى قيام الثورة في 23
يوليو التي أجبرته عن التنازل
عن العرش لابنه الذي لم يتجاوز
وقتها الستة أشهر مع تعيين لجنة
من الأوصياء عليه، قبل أن يغادر
الملك مصر من ميناء الأسكندرية
يوم 26 يوليو على ظهر اليخت
الملكي "المحروسة" متجها
إلى إيطاليا التي توفى بها عام
1965 ، وقد ذكر بعض المؤرخين أنه
اغتيل بالسم في أحد مطاعمها،
وكان الملك قد أوصى أن يدفن
جثمانه في مصر، إلا أن جمال عبد
الناصر رفض هذا، ولكن تم دفن
جثمانه بعد ذلك بداخل مسجد
الرفاعي في مصر بعد أن تم نقل
جثمانه إليها ليلا وفي حراسة
شديدة وسرية بالغة.
وظل
أحمد فؤاد الثاني ملكا صوريا
على مصر وهو رضيع إلى أن ألغيت
الملكية وتم إعلان الجمهورية في
18 يونيو 1953.
|