-
اتفقت
الروايات على ان عباس مات مقتولا
فى قصره فى بنها ، وهذا امر مقطوع
بصحته ، ولكن الخلاف فى رواية
مقتله ، وليس عجيبا ان يختلف
الرواه فى ذلك ، فأن مقتل عباس كان
نتيجة مؤامرة من مؤامرات القصور ،
وهذه المؤامرات لايسهل اكتساب
حقيقتها ، او الاتفاق على روايتها
لما يكتنفها من الاسرار ، ولانا
تقع فى جنح الظلام ، بعيده عن
الانظار ، فلا يعرف الناس عنها الا
ماتتناقله الالسنه بعد وقوعها ،
ومن هنا ينشأ الاختلاف فى الرواية
، ولدينا عن مقتل عباس روايتان
احدهما ذكرها اسماعيل باشا سرهنك
فى كتابه ( حقائق الاخبار عن دول
البحار ج2 ص 265 ) والاخرى ذكرتها
مدام اولمب ادوار كما سمعتها بمصر
فى اوائل عهد اسماعيل ودونتها فى
كتابها ( كشف الستار عن اسرار مصر ص
143 ) .
-
ويؤخذ
من رواية اسماعيل باشا سرهنك ، ان
عباس كانت له حاشية من المماليك
يقربهم اليه ويصطفيهم ، ويتخذ
منهم خواص خدمه ، وهم عنده من
المنزله ماجعله يغدق عليهم بالرتب
العسكرية العالية ، على غير كفاءة
يستحقونها ، حتى حاز اكثرهم رتبة
قائمقام وكان لهم كبير من خاصة
غلمانه ، يسمى خليل درويش بك ،
وعرف فيما بعد بحسين بك الصغير ،
وقد اساء هذا الرئيس معاملة اولئك
المماليك ، فأستطالوا عليه بالغمز
واللمز ، وخاصة لانه كان صغير السن
، فأتخذوا من حداثته مغمز
الاقاويل ، فسخط عليهم ، وشكاهم
على مولاه ، فأمر بجلدهم ، فجلدوا
، وجردوا من ثيابهم العسكرية ،
والبسهم خشن اللباس ، وارسلهم الى
الاصطبلات لخدمة الخيل ، فعز ذلك
على ( مصطفى باشا ) امين خزانة عباس
، لانهم كانوا من اتباعه المقربين
اليه ، فسعى جهده لدى سيده ليعفو
عنهم ، فلم ينل بادىء الامر بغيته
، فلما ذهب عباس باشا الى قصره فى
بنها بصحبة احمد باشا يكن
وابراهيم باشا الالفى محافظ
العاصمة ، رجاهما مصطفى باشا ان
يطلبا العفو عنهم ، فطلبا ذلك من
عباس ، فأجاب ملتمسهما ، واصدر
امرا بالعفو عنهم ، وردهم الى
مناصبهم ، فجاءوا الى بنها
ليرفعوا واجب الشكر للامير ،
ولكنهم اضمروا الفتك بك انتقاما
لما اوقع بهم ، فأئتمروا به مع
غلامين من خدمة السراى ، يدعى
احدهما عمر وصفى والاخر شاكر حسين
، واتفق الجميع على قتله ، وكان من
عادة عباس عند ان نومه ان يقوم على
حراسته غلامان من مماليكه ، ففى
ليلة 18 شوال سنة 1270 ( 14 يوليه سنة 1854
) كان الغلامان الذكوران يتوليان
حراسته ، فجاء المؤتمرون فى غسق
الليل على اتفاق معهما ، وفتحا لهم
الباب ، فدخلوا الى غرفة الامير
وهو نائم ، ولما ارادوا الفتك به
استيقظ وحاول النجاة ، فصده عمر
وصفى ، وتكاثر عليه المتأمرون
وقتلوه ، ثم اوعزوا الى الغلامين
بالهرب فهربا ، وكتم المتأمرون
الخبر الى اليوم التالى ولما لم
يستيقظ الامير فى موعده دخل عليه
احمد باشا يكن وابراهيم باشا
الالفى فوجداه مقتولا ، فذعرا
لهذه الفاجعة ، واتفقا على اخفاء
الخبر حتى نقل الامير القتيل الى
القاهره فى عربة ووصلا الى قصره
بالحلمية ، وهناك ذاع خبر قتله .
-
تلك
خلاص رواية اسماعيل باشا سرهنك .
-
اما
رواية مدام اولمب ادوار فخلاصتها
، ان الاميرة نازلى هانم عمة عباس
هى التى ائتمرت به وهى فى الاستانه
، وانفذت مملوكين من اتباعها
لقتله ، واتفقت واياهما على ان
يعرضا انفسهما فى سوق الرقيق
بالقاهره ، كى يشتريهما عباس
ويدخلهما فى خدمته ، وكان
المملوكان على جانب من الجمال ،
مما يرغب وكيل الامير فى شرائهما ،
فجاءا الى القاهره فعلا ونزلا الى
سوق الرقيق ، الى راهما وكيل
الامير ، فراقه جمالهما ،
فأشتراهما وادخلهما سراى مولاه
ببنها ، فأعجب بهما عباس ، وعهد
اليهما بحراسته ليلا ، قالت مدام
الومب ادوار ، فلما كانت الليلة
الاولى لم يجروء المملوكان على
ارتكاب القتل ، لانهما خشيا بأس
عباس اذ كان قوى البنيه ، شديد
البطش ، وخافا ان يقاومهما وينجو
من فتكهما ، فينكل بهما اشد تنكيل
، ويوردهما موارد الهلاك المحتوم
، فأنقضت الليلة الاولى بسلام ،
ومرت ايام عدة وهما يستجمعان
قوتهما لانفاذ القتل عند سنوح
الفرصه ، حتى جاءتهما النوبة
ثانية لحراسة مولاهما ، فاعتزما
ان يكونا اكثر شجاعة من قبل فلم
يكد يستغرق عباس فى النوم حتى
انقضا عليه وقتلاه ، ولم يدعا
الوقت لصيح او يقاوم ، ولما ارتكبا
الجريمة نزلا اصطبلات الخير
الملحقة بالسراى ، وطلبا الى
السائس ان يجهز لهما فورا جوادين
بحجة ان الباشا يطلب حاجه له من
قصره بالعباسية ، فلم يشك الخادم
بالامر ، وجهز لهما الجوادين
فسارا بهما عدوا الى القاهرة ، ومن
هناك فرا الى الاستانة ، حيث
نقدتهما الاميرة نازلى مكافأة
سخية على انفاذ المؤامرة .
-
وتقول
مدام اولمب ادوار ان الهامى باشا
تعقب المملوكين القاتلين ليثأر
لأبيه ، فألتقى بأحدهما فى
الاستانه ، وقتله رميا برصاص
مسدسه ، ولم يستطع اللحاق بالثانى
ولم يعثر له على مكان ، وقيل انه
اوى الى بلاد الارناءود فرارا من
القتل .
-
فالروايتان
مع اختلافهما فى بيان المحرضين
على القتل وطريقة ارتكاب الجريمة
متفقتان كما ترى فى ان عباس مات
مقتولا اثر مؤامرة دبرت لقتله
وانفذت فى قصره ببنها .