شكلت وزارة النحاس الثانية بنفس الوزراء ماعدا مكرم عبيد الذى خرج من الوزارة ثم تقرر بعد ذلك فصله من الحزب نهائيا ، وتعتبر هذه الوزارة اطول وزارات النحاس عمرا حيث استمرت اكثر من عامين ، واهم مايسجل خلال هذه الفترة على الساحة السياسية ، ملك متحفز للتخلص من حكومة فرضت عليه ، ولديه الف سبب وسبب ، وعلى الجانب الاخر السفير البريطانى الذى ظل يقف بصلابة امام محاولات القصر ، وقد اصطنع كل طرف الوسائل المتاحة لتمكينة من بلوغ اهدافة والتى كانت تتصاعد الاحداث فيها لدرجة توجيه الانذارات الى القصر ، وكان الامر ينتهى دائما بالنزول على رغبات الملك .

وفى تلك الاثناء كان قد تم ترويض الملك فاروق ، فأذا به يصالح الانجليز بأهدائهم قصر رأس التين لكى يكون مستشفى لكبار الضباط الانجليز طوال سنوات الحرب ، وكوفىء على ذلك بأهدائه عصا ( المارشالية ) مع لقب جنرال شرف فى الجيش البريطانى .

وقد واصلت الوزارة خطة التعاون مع بريطانيا ، وسلمت للسلطات العسكرية جميع الاراضى والمبانى التى طلبتها لشغلها طوال فترة الحرب ، ومنها قرية الشط بأكملها شرق القناة تجاه بور توفيق مع اخلاء مسئولية الحكومة عن ايه مطالبات لأهالى البلدة مقابل ذلك .

وكانت حالة الحرب وسيطرة بريطانيا وحلفائها على البحار قد جعلت مصر فى عزلة اقتصادية عن العالم ، ولم تستطع تصريف حاصلاتها خاصة القطن ، وصار زمام تجارة مصر الخارجية فى ايدى بريطانيا التى تحكمت فى اسعار الحاصلات الزراعية وفى مقدمتها القطن ، عماد الثروة فى البلاد .

وتدفقت جيوش الحلفاء على مصر ، وصار معظم تموينها من منتجات البلاد وحاصلاتها ، فأدى ذلك الى موجة من غلاء الاسعار واختفاء العديد من السلع وظهور السوق السوداء ، والغريب ان بريطانيا لم تدفع ثمن تموين جيوشها وجيوش حلفائها نقدا او سلعا ، بل كان الدفع يتم عن طريق اذونات تسلمها للبنك الاهلى الانجليزى على الخزانة البريطانية ليصدر البنك مقابلها الكميات التى تطلبها من اوراق البنكنوت المصرى مما ادى الى حدوث حالة من التضخم وهبوط القيمة الشرائية للنقد المصرى وبالتالى ارتفاع الاسعار ارتفاعا حادا .

وافق مجلس الوزراء على مساهمة حكومة مصر فى المشروع البريطانى لترفيه عن القوات المتحاربة ، ومشروع معاونة ايتام مدينة ( ستالينجراد ) بالاتحاد السوفيتى وذلك فى حدود مبلغ 2000 جنية .

وقرر المجلس توزيع مساحة 4617 فدانا على خريجى المعاهد الزراعية المالية والمتوسطة وتخصيص 50 الف جنية سلفة لأقامة مبانى للمنتفعين بالاقطاعيات وشراء الالات والمعدات .

واستصدرت الوزارة قانونا بمجانية التعليم الابتدائى ، واعتماد 335 الف جنية لأستكمال منشأت جامعة فاروق الاول بالاسكندرية ، وندب الدكتور طه حسين بك المستشار الفنى لوزارة المعارف العمومية مدير للجامعة علاوة على عمله .

وفى العلاقات مع الدول العربية والاسلامية قرر المجلس :

-       الاعتراف بلبنان فى 27 سبتمبر 1943 دولة مستقلة ذات سيادة وتبادل التمثيل السياسى معها .

-       اهداء حضرموت 10 الاف جنية لتشترى به قوتا لمنكوبى المجاعة بها .

-       تخصيص 20 الف جنية لمسلمى مقاطعتى البوسنة والهرسك بيوغوسلافيا للتخفيف عن المعاناه التى كانوا يلاقونها .

-       فى سبتمبر 1944 اجتمعت وفود كل من مصر وسوريا ولبنان والعراق وشرق الاردن فى الاسكندرية لعقد ميثاق انشاء جامعة الدول العربية ، ومن اهم بنودة ان فلسطين ركن من اركان البلاد العربية .

خلال عام 42 ظهر وباء الملاريا فى مديريتى اسوان وقنا نتيجة دخول بعوض الجامبيا فى الجنوب بواسطة الطائرات البريطانية التى لم تكن تعنى بتطهيرها مما ادى الى تسرب البعوض الى بلاد النوبة ، وظهر الوباء لأول مرة فى قرية ابو سمبل وانتقل منها الى اسوان ثم قنا ، وقد بلغ عدد من اصيبوا بالمرض 250 الف مات منهم حوالى 20 الف ، وتحول المرض الى وباء فى شتاء عام 1944 ، وقد ادت المجاعة فى تلك المناطق الى زيادة نسبة الوفيات بالاضافة الى فشل الوزارة فى اتخاذ الاجراءات الوقائية المناسبة فى الوقت المناسب .

وكانت مصائب الناس ، عامة الناس مجالا للمزايدات بين القصر والوزارة ، لقد استغل القصر فشل الوزارة فى مكافحة الملاريا ورقة يلعب بها لصالحه حيث قام الملك بزيارة لهذه المناطق ، صحبتها هالة كبيرة من الدعاية والاشادة بعطف الملك على الفلاحين المنكوبين ، وحاول النحاس الرد على ذلك بالقيام بجولات مماثلة مما اغضب القصر الذى رأى ان القصد منها تقليد الجولات الملكية .

فى الساعة الرابعة مساء 15 نوفمبر 1943 اصطدمت سيارة الملك فاروق بأحدى سيارات النقل فى طريق الاسماعيلية قرب القصاصين ، فأصيب الملك اصابات بسيطة ونقل الى احد مستشفيات الجيش البريطانى القريبة من مكان الحادث فى القصاصين لأجراء الاسعافات اللازمة ، وعاد الى القاهرة بعد حوالى اسبوعين ، وقد استغلت السراى الحادث لأضعاف شعبية الوفد ، فنظمت مظاهرات اشترك فيها العمال والطلاب للهتاف بحياة الملك ، وشهدت الشهور الاخيرة من عام 43 نشاطا ملحوظا لهذة المظاهرات .

بعد فصل مكرم عبيد كما اسلفنا من الوفد ، انضم بكل قوته الى خصوم الوفد وهاجم النحاس باشا والحزب مهاجمة عنيفة فى العريضة المشهورة التى رفعها الى الملك فى 31 مارس 1943 ، والتى طبعت على نطاق واسع تحت اسم ( الكتاب الاسود ) ، وقد امتلأت بالمطاعن على رئيس الوزراء واقارب حرمه .

كانت قوات المحور قد تجاوزت حدود مصر بقيادة روميل وتوغلت فى الصحراء الغربية مكتسحة امامها القوات البريطانية حتى العلمين ، وفى هذا الموقع دارت معركة من اكبر معارك الدبابات غيرت وجه التاريخ فى هذه المنطقة سميت ( معركة العلمين ) وانتهت بأندحار قوات المحور وتقهقرها امام القوات البريطانية بقيادة الجنرال ( مونتجمرى ) وبها قضى على الزحف الالمانى الايطالى فى شمال افريقيا .

وفى نوفمبر 1943 اجتمع اقطاب الحلفاء بفندق مينا هاوس بالقاهرة فى مؤتمر ضم روزفلت رئيس الولايات المتحدة والمستر ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطانى وشيانج كاى شك رئيس جمهورية الصين ، وانتهز زعماء المعارضة فى مصر فرصة اجتماع الاقطاب وتقدموا اليهم بمذكرة برفع القيود التى اوجدتها معاهدة 1936 ولاسيما القيود العسكرية ، وان تجلو بريطانيا عن مصر بعد نهاية الحرب وجميع القوات الاجنبية وان تسترد مصر سلطاتها كاملة على قناة السويس ، وقد منعت وزارة النحاس باشا نشر هذه المذكرة او الاشارة اليها فى الصحف .

ولعل كل هذه الاحداث مجتمعة ، ومحاولات القصر فى التخلص من الوزارة كانت بداية نهاية الوزارة ، فى 12 ابريل 1944 استدعى الملك السفير البريطانى وابلغه بنيته فى اجراء تغيير فى الحكومة وانه ينوى اسناد الوزارة الجديدة الى رجال غير حزبيين معروفين بولائهم لبريطانيا .

وبالرغم من الاتفاق الذى تم بين الملك والسفير على انتظار رد لندن ، الا ان الملك حاول ان يضع السفير امام الامر الواقع واعد مرسوما بأقالة الوزارة ، ولكن السفير نجح فى الضغط عليه حتى يصل رد المستر تشرشل الذى كان قد استدعى وزارة الحرب للتشاور فى الامر .

وجاء رد الحكومة البريطانية ان اقالة حكومة يتمتع رئيسها بأغلبية فى البرلمان الذى مازال امامه 3 سنوات يعتبر عملا محفوفا بالمخاطر ، ولكن اذا اراد الملك حل البرلمان واجراء انتخابات جديدة فأن لندن لن تتدخل بشرط الا يتولى رئاسة الوزارة احد رجال القصر او زعيم لايحصل على اغلبية برلمانية .

وكان معنى الرد ببساطة ان يحتكم النحاس الى الشعب ، فأذا جدد ثقتة به يعود الى الوزارة ، وهو حل ماكان القصر ليرتضية .

وانقضت فترة 5 اشهر بعدها كانت بمثابة التقاط انفاس وسط دائرة الصراع ، وفى يوم الجمعة 15 سبتمبر 1944 بينما كان الملك فى موكب للصلاة الى جامع عمرو ، لاحظ ان بعض لافتات الترحيب كتب عليها يحيا الملك مع النحاس ، فأصدر اوامره الى مدير الامن بنزع اللافتات على الفور .

ومساء نفس اليوم اصدر النحاس باشا بوصفه وزيرا للداخلية قرارا بأيقاف مدير الامن عن عملة ، وكان من الطبيعى ان يثير مثل هذا القرار الملك الذى صمم على بقاء مدير الامن فى موقعه ، وتمسك كل طرف بموقفه مما ادى الى استفحال الازمة .

وانتظر كل من جانبى الصراع موقف السفارة البريطانية من الازمة ، غير ان موقف السفارة فى هذه الفترة كانت تحكمة مجموعة من الاعتبارات منها ان ظروف الحر قد قاربت على الانتهاء بعد ان خرجت ايطاليا منها واطبقت قوات الحلفاء على المانيا من كل جانب ، ولذا فقد كان تدخل السفارة لصالح الوزارة بحجة ظروف الحرب امرا من الصعب تفسيرة ، بالاضافة الى ان الوزارة كان قد اصابها الكثير من سوء السمعة بسبب ماتردد عن المحسوبية وسوء الادارة والرشوة واستخدام الوزارة للاحكام العرفية فى ضرب خصومها بعد ان كانت لاتستخدم الا لضرب خصوم الحلفاء ، وكان اخر هذه الاعتبارات ان ( غزالى بك ) مدير الامن موضوع الخلاف كان من الشخصيات المقربة للانجليز لتعاونه المخلص معها .

وعلى ضوء هذه الاعتبارات مجتمعة اتخذت الحكومة البريطانية قرارها الذى ابلغته لطرفى الازمة ومؤداه ان حكومة صاحب الجلالة لاتريد ان تتورط فى هذا الخلاف الداخلى .

وكان معنى القرار اعطاء الضوء الاخضر امام القصر لأقالة الوزارة ، وهى فرصة كان الانجليز يدركون ان الملك لن يفوتها ، كما ادرك رئيس الوزراء نفس الحقيقة .

وفى محاولة لأنقاذ مايمكن انقاذه ، قرر النحاس باشا ان يدعو مجلس الوزراء الى اجتماع عاجل الساعة الثامنة مساء 8 اكتوبر 1944 ، على ان يتقدم فى اعقابة بأستقالة الى الملك متذرعا بالتدخل البريطانى حتى يكون خروجة من الحكم على نحو وطنى يكفل له استرداد جانب من رصيد الشعبية التى كان قد فقدها خلال وزارته الاخيرة .

ولكن وقبل ان ينفذ النحاس خطتة ، يفسدها له القصر ، ففى الساعة الخامسة والنصف وقبل اجتماع مجلس الوزراء يصدر الملك امرا بأقالة الوزارة وقد صيغ هذا الامر فى عبارات جافة وقاسية ، وكان نصه :

( عزيزى النحاس باشا .. لما كنت حريصا ان تحكم بلادى وزارة ديمقراطية تعمل للوطن ، وتطبق احكام الدستور نصا وروحا ، وتقوم بتوفير الغذاء والكساء لطبقات الشعب .. فقد رأينا ان نقيلكم من منصبكم ...... )

من الضرورى قبل مواصلة احداث المسيرة القاء الضوء على الوزارات المصرية التى تولت الحكم بعد خروج الوفد عام 1944 ، بأقالة وزارة النحاس باشا بأعتبارها شهدت مجموعة من التغيرات انعكست بشكل او بأخر على التاريخ الوزارى فى مصر ، ومهدت بالتالى لقيام ثورة 23 يوليو 1952 .

وقد تمثلت هذه التغييرات فى الهزال الذى اصاب الاسد البريطانى بعد استنزاف موارد بريطانيا فى الحرب العالمية الثانية ، مما اغرى الشعوب التى كانت مستعمرة الى المطالبة بتحقيق استقلالها الوطنى ، وكانت مصر من بين هذه الدول التى سعت على امتداد هذه السنوات الى انهاء الوجود العسكرى الاجنبى ، وقد شهدت البلاد خلال هذه السنوات فترات عصيبة افتقدت فيها الامن وعدم الاستقرار ، وكان للفشل فى تحقيق المطالب الوطنية ان ظهرت جماعات سياسية جديدة لم تكن مؤثرة على الساحة السياسية مثل الاخوان المسلمون والشيوعيون والاشتراكيون ، والتى حرمت من قنوات شرعية تمارس فيها نشاطها فلجأت الى العنف تعبيرا عن وجودها .

وكان من الضرورى ان ينعكس ذلك على الوزارة المصرية ، ويكفى الاشارة فى هذا المجال ان رئيسين من اربعة رؤساء للوزارة فى تلك المرحلة قد اغتيلا ( احمد ماهر فى 24 فبراير 1945 ، ومحمود فهمى النقراشى فى 28 ديسمبر 1948 ) وان وزارتين قد استقالتا لأسباب تتعلق بالامن .

وبضعف او توقف التدخل البريطانى فى الشئون الداخلية المصرية ، فقد استأثر القصر بالسيطرة على الوزارة بعد اخراج النحاس باشا من الحكم عام 1944 .

وفى ظل هذه الظروف تألفت وعاشت وسقطت الوزارات كما ستشير الاحداث .